الوقت - حينما تتصدر قضايا حقوق الإنسان والقيم الكونية المشهد، تنبري الدول الغربية متشدقةً بريادتها في صون الكرامة البشرية، غير أن سياستها المتلونة إزاء الأزمات العالمية تفضح حقيقةً مروعةً مفادها بأن مفهوم حقوق الإنسان في المخيال الغربي، قد استحال إلى مجرد أداة سياسية يُتاجر بها وفق مقتضيات المصلحة.
غدا أطفال غزة في عصرنا الراهن أيقونًة صارخةً لهذا التمييز والعنصرية المتجذرة، أطفال يتساقطون صرعى تحت وابل القصف وطوق الحصار، وفي الوقت عينه، يُتعمد طمس صوت مأساتهم في المحافل الإعلامية والدبلوماسية بإصرارٍ مريب، ولتوضيح هذه الحقيقة بصورة أنصع، تميط المقارنة بين تعاطي الغرب مع حربي أوكرانيا وغزة اللثام عن تناقض صارخ، تناقض يتجسد في “عنصرية بنيوية” متأصلة في مقاربة الغرب للمآسي الإنسانية.
المكاييل المزدوجة للغرب بين أوكرانيا وغزة
عندما أطلقت روسيا شرارة حربها على أوكرانيا عام 2022، هبّت منابر الإعلام الغربية وحكومات أوروبا وأمريكا بسرعة لم يسبق لها مثيل، فمنذ الساعات الأولى، تربعت صور الأطفال الأوكرانيين الذين تذرف عيونهم الدمع في محطات القطار أو الملاجئ على عرش العناوين الرئيسة في وسائل الإعلام العالمية، وتداعى قادة الغرب لعقد اجتماعات استثنائية في البيت الأبيض وبروكسل، وتدفقت مليارات الدولارات كمساعدات عسكرية وإنسانية لدرء الخطر عن الشعب الأوكراني من الهجمات الروسية.
وحسب الأرقام المعلنة، ضخّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إبان الصراع الأوكراني ما يناهز 300 مليار دولار تقريباً على هيئة معونات عسكرية ومالية وإنسانية لأوكرانيا، لتجنيب شعبها مرارة الضيق وألم الحرمان، بل احتضنت بلدان أوروبا وأمريكا ما يربو على 5 ملايين من المهجرين ليجدوا ملاذاً آمناً يقيهم شظف العيش، إلى أن تعود الأوضاع إلى سابق عهدها قبل اندلاع نيران الحرب.
وفضلاً عن ذلك، اكتسى دعم الغربيين لأطفال أوكرانيا في الآونة الأخيرة بطابع رومانسي مثير، وفي هذا السياق، خطت ميلانيا ترامب، قرينة الرئيس الأمريكي، مؤخراً رسالةً رمزيةً موجهةً إلى فلاديمير بوتين، رئيس جمهورية روسيا، تناشده فيها بإلحاح وقف حصد أرواح الأطفال الأوكرانيين، إذ باعترافها قد آن الأوان لحماية براعم البشرية والأجيال القادمة في أرجاء المعمورة (وبالأخص الأوكرانيين).
في المقابل، لم يحرّك أكثر من عقد من العنف الممنهج الذي يمارسه الكيان الصهيوني ضد أهل غزة، وفي العامين المنصرمين القصف الهمجي للأحياء السكنية الذي جعل النساء والأطفال هدفاً رئيساً له، ساكناً في النفوس الغربية، بل قوبل بجدارٍ من الصمت أو حتى التبرير من لدن الغرب.
يذرف ساسة الغرب دموعاً غزيرةً على روح طفل أوكراني واحد، بينما يلزمون الصمت المطبق أمام مشاهد أشلاء الأطفال الفلسطينيين تحت أنقاض منازلهم، أو ينبرون للدفاع عن جرائم تل أبيب.
وفي حين تحوّل أطفال أوكرانيا إلى رمز للبراءة المغتصبة، يُقصى أطفال غزة إقصاءً تاماً من دائرة الاهتمام الأخلاقي الغربي، فرغم تصاعد أرواح عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين إلى بارئها، أو إصابتهم بجراح بليغة جراء القصف المتواصل، ومكابدة مئات الآلاف منهم ويلات سوء التغذية والتشرد، لم تخط يراعة من قلم الشخصيات السياسية والثقافية الغربية حرفاً واحداً، ولم يُعقد مجلس طارئ في البيت الأبيض لإنقاذ أرواحهم البريئة، هذا الصمت المريب ينمّ عن وجود معيار مزدوج متجذر في عنصرية بنيوية تنخر في جسد الحضارة الغربية.
وتماشياً مع نهج الساسة، تضطلع وسائل الإعلام الغربية بدور محوري في تكريس هذا التفاوت الصارخ من خلال تصويرها المتباين للمأساتين، فوكالات الأنباء المرموقة حين تنقل خبر مصرع أطفال أوكرانيين، تنعتهم بـ"ضحايا أبرياء"، أما في حالة غزة، فتلجأ غالباً إلى عبارات باردة مثل “خسائر جانبية” أو “وفيات في خضم الاشتباكات”. هذه اللغة الجافة والمجردة من الإنسانية تجعل الرأي العام الغربي أقل تأثراً بالفاجعة، وبالتالي لا يتبلور ضغط سياسي على حكوماتهم لوضع حد للمجازر المروعة في غزة.
شهداء غزة يفوقون ضحايا أوكرانيا بمراحل
تتجلى هذه الازدواجية في السلوكيات العنصرية في وقتٍ تفوق فيه أعداد الأطفال الذين ارتقوا إلى العلا في غزة بمراحل نظيرتها في أوكرانيا، فوفقاً للإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة في غزة من أكتوبر 2023 حتى يوليو 2025، استشهد قرابة 18592 طفلاً فلسطينياً في هذه البقعة المحاصرة التي مزقتها آلة الحرب الصهيونية، وهذا العدد المفجع في تصاعدٍ مستمر لا ينقطع.
وبناءً على تقرير أصدرته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) يوم الثلاثاء (19 أغسطس 2025)، ارتقى إلى العلی أكثر من 540 طفلاً شهرياً في غزة خلال الأشهر الخمسة المنصرمة في ظل الهجمات الوحشية المتواصلة للكيان الصهيوني، وأشارت هذه الهيئة المنبثقة عن الأمم المتحدة، إلى أن هذه الأرقام المفجعة تعكس هول المأساة التي يرزح تحت وطأتها براعم الإنسانية في غزة.
كما أماط صندوق الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) اللثام عن تفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، معلناً أن 112 طفلاً يذوون يومياً بسبب سوء التغذية في هذه البقعة المنكوبة نتيجة استمرار آلة الحرب الصهيونية وطوق الحصار الخانق. ووفقاً لتقرير هذه المنظمة الدولية، يلقى ما لا يقل عن 28 طفلاً حتفهم يومياً في غزة جراء القصف والجوع وانعدام الخدمات الطبية، كما دقّت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة ناقوس الخطر محذرةً من أن أزمة الصحة في القطاع بلغت حداً يفارق فيه الأطفال الحياة كل 40 دقيقة تقريباً، وأن على المجتمع الدولي أن يهبّ لنجدتهم على جناح السرعة.
يتشدّق الغربيون بالذود عن حياض أطفال أوكرانيا في الوقت الذي أغدقوا فيه مئات المليارات من الدولارات كمساعدات مالية لشعب هذا البلد على مدى السنوات الأربع المنقضية، ما أنقذ الأوكرانيين من براثن الجوع وويلات سوء التغذية رغم ظروف الحرب القاسية، بينما يكابد أطفال غزة، فضلاً عن تعرضهم يومياً لوابل القصف الهمجي من الکيان الصهيوني، حصاراً اقتصادياً خانقاً منذ عامين، وقد سلب هذا الوضع المأساوي منهم أدنى مقومات الحياة الكريمة.
ومع ذلك، يدّعي الغربيون في العلن ضرورة وقف رحى الحرب وحماية المدنيين، لكنهم في السر يمنحون الضوء الأخضر لاستمرار المجازر من خلال تدفق الأسلحة الفتاكة وتقديم الدعم السياسي اللامحدود للكيان الصهيوني، هذه الازدواجية المقيتة لم تعرض أرواح آلاف الأطفال الفلسطينيين للخطر المحدق فحسب، بل وسمت جبين الدول الغربية بوصمة عار أبدية كشريك متواطئ في هذه الجرائم النكراء في محكمة الرأي العام العالمي.
لأطفال فلسطين الحق الأصيل في الحياة والأمن والمستقبل المشرق بقدر ما لأطفال أوكرانيا أو أي بقعة أخرى على وجه البسيطة، إنكار هذه المساواة ليس انتهاكاً صارخاً لمبادئ حقوق الإنسان فحسب، بل يشكّل أيضاً طعنةً نجلاء في خاصرة الضمير الإنساني، إذا كان قادة الغرب ملتزمين حقاً بما يرفعونه من شعارات براقة حول “القيمة الكونية للنفس البشرية”، فلتظهر منهم الجدية ذاتها لوقف شلال الدماء المتدفق في غزة التي أبدوها تجاه أوكرانيا.
جذور العنصرية البنيوية المتأصلة
لا ينحصر التعامل المزدوج للغربيين مع الأزمات العالمية في دائرة الحسابات الجيوسياسية الضيقة، بل يكمن وراء هذا الصمت المريب والتواطؤ المفضوح نمط من العنصرية البنيوية المتجذرة، التي تصنّف بني البشر على أساس العرق والدين والموقع الجغرافي.
يحظى الطفل الأوروبي ذو البشرة البيضاء في المنظومة الفكرية الغربية بالحماية والتعاطف والتدخل العاجل، بينما الطفل الفلسطيني المنتمي إلى “الأمة العربية والدين الإسلامي” لا تنحط قيمته في ميزان القوى الغربية فحسب، بل غالباً ما يُسوَّغ استشهاده باعتباره “ضريبة حرب لا مناص منها” أو حتى “حقاً مشروعاً لإسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
وفي حين أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مراراً وتكراراً قرارات شديدة اللهجة بشأن أوكرانيا وفرض عقوبات صارمة على روسيا، لم يتبلور مثل هذا الإجماع فيما يتعلق بالكيان الصهيوني، بل إن الدول الغربية، مستخدمةً سيف الفيتو أو ممارسة الضغط السياسي، حالت دون إقرار قرارات ملزمة تردع تل أبيب عن غيها.
هذا السلوك المشين لا يعكس فقط إيثاراً فاضحاً للمصالح السياسية على المبادئ الإنسانية السامية، بل يبعث برسالة خطيرة إلى العالم أجمع مفادها بأن قيمة حياة الأطفال تتفاوت بتفاوت أعراقهم ومعتقداتهم، فأطفال غزة ليسوا ضحايا القصف الهمجي والحصار الظالم فحسب، بل هم أيضاً ضحايا هذه الرسالة العنصرية البغيضة التي توحي بأن دماءهم رخيصة في نظر الغرب.
وبناءً عليه، يغذي هذا السلوك المشين استمرار دوامة العنف الدموية، وتواصل تل أبيب غاراتها الوحشية بلا رادع، واثقةً من دعم الغرب أو صمته المتواطئ، بينما تجد الفصائل الفلسطينية، أمام هذا الظلم الصارخ، حافزاً أعظم للمقاومة والتصدي، والنتيجة الحتمية هي أن جيلاً إثر جيل من أطفال غزة ينشؤون في أجواء مشحونة بالحرب والكراهية وانعدام الثقة.
وفي خاتمة المطاف، لم يعد أطفال غزة في زماننا الراهن مجرد ضحايا لحرب غير متكافئة تدور رحاها، بل استحالوا إلى رمزٍ حي ناطق للتناقضات العميقة والعنصرية المتجذرة في النسيج السياسي والثقافي الغربي، وما لم تُجتث هذه العنصرية البنيوية من جذورها، ستظل شعارات الغرب البراقة حول حقوق الإنسان مجرد سرابٍ خادع، يخفي وراءه مصالح جيوسياسية بحتة لا غير.