الوقت - في غمرة تصاعد أوار التوترات في غرب آسيا، شرعت الولايات المتحدة في تحركات عسكرية جديدة على مسرح الساحة العراقية، وفي هذا المضمار، أماط المتحدث باسم السفارة الأمريكية في بغداد اللثام يوم الاثنين (19 أغسطس)، عن صحة التقارير الإعلامية التي تناولت انسحاب القوات الأمريكية من أراضي العراق.
بيد أنه استدرك قائلاً إن أنشطة التحالف الدولي في العراق “ستظل قائمةً تحت مسمى الإجراءات غير العسكرية”، وإن الشقّ العسكري منها سيتحول إلى ما أسماه “شراكة أمنية ثنائية”، ووصف مهمة بلاده في العراق بأنها مكافحة تنظيم "داعش"، مؤكداً أن جلاء القوات الأمريكية لن يعني بأي حال من الأحوال خاتمة هذه المهمة المزعومة.
وكانت مصادر إعلامية قد أفصحت سابقاً عن أن الولايات المتحدة بصدد وضع خطط لسحب قواتها من بغداد، وقاعدة “عين الأسد” الجوية في غرب العراق ونقلها إلى أربيل.
وأفادت مصادر مطلعة لصحيفة الشرق الأوسط بأن هذه التغييرات الجارية، لا تنطوي على التنصّل من الاتفاق المبرم بين واشنطن وبغداد في سبتمبر 2024، وينصّ هذا الاتفاق على انسحاب بضع مئات من الجنود الأمريكيين بحلول سبتمبر، على أن تغادر بقية القوات الأراضي العراقية بحلول نهاية عام 2026، وأضاف مسؤول أمني أمريكي: “ليست هذه عمليةً واسعة النطاق، لكنها تستجيب بدقة متناهية للخريطة الجديدة للمخاطر الأمنية في العراق ومحيطه”.
يمكن تمحيص انسحاب القوات الأمريكية من زوايا سياسية وأمنية واستراتيجية متعددة لاستجلاء أبعاده وتداعياته بصورة شاملة.
العوامل المؤثرة في قرار الانسحاب الأمريكي
ينبغي البحث عن سبب قرار واشنطن بنقل قواتها أو سحب جزء منها من أرض العراق، في جملة من العوامل الداخلية والإقليمية، يأتي في مقدمتها ضغط الرأي العام وفصائل المقاومة على حكومة محمد شياع السوداني، رئيس وزراء العراق، المطالبة بالطرد الفوري للقوات الأمريكية المحتلة.
لقد برهنت التجارب المريرة أن الوجود العسكري الأجنبي لم يجلب الأمن المنشود فحسب، بل كان معولاً للهدم وعاملاً للاضطراب وانعدام الاستقرار في ربوع العراق.
علاوةً على ذلك، دفعت الدوافع الانتخابية للسوداني عشية الاستحقاق الانتخابي، إلى تبني سياسات تستميل الرأي العام وفصائل المقاومة، فالتقارب مع الولايات المتحدة في الظروف الراهنة لا يصبّ في مصلحة قاعدته الانتخابية فحسب، بل قد يقوّض مستقبله السياسي ويهوي به إلى الحضيض.
واجه السوداني حتى الآن استياءً عارماً من مؤيديه في الإطار التنسيقي بسبب مماطلته في التعامل مع تدخلات واشنطن السافرة، كعرقلة إقرار قانون الحشد الشعبي وتعطيل صرف رواتب منتسبي هذه المنظمة الوطنية.
يدرك السوداني تمام الإدراك أنه يدين بارتقائه سدة رئاسة الوزراء لدعم هذه الفصائل، وإن أي تراجع في تأييدها قد يؤدي إلى تقويض أركان منصبه. لذلك، يسعى جاهداً عشية الانتخابات إلى اتخاذ قرارات تستميل الشعب وقوى المقاومة، معزّزاً صورته وموقعه السياسي، وفي الوقت نفسه محافظاً على قاعدته الانتخابية ليتمكن من التأثير في المعادلات السياسية المستقبلية للعراق.
هل واشنطن صادقة في إعلانها الانسحاب من العراق؟
رغم أن الولايات المتحدة تُظهر في العلن استعدادها للانسحاب من العراق، تثير التجارب المريرة السابقة تساؤلاً ملحاً: هل واشنطن صادقة حقاً في هذا القرار، أم إنها تنسج خيوط لعبة جديدة للالتفاف على مطالب بغداد وفصائل المقاومة؟
تشير التقديرات الراجحة إلى أن هذا الإجراء، أقرب إلى تبديل الثوب والقناع منه إلى قرار حقيقي بالرحيل، في حقيقة الأمر، ما يُطرح اليوم كانسحاب أو نقل للقوات، ليس في جوهره سوى مناورة سياسية لامتصاص غضب الرأي العام وتخفيف وطأة ضغط فصائل المقاومة، وليس إنهاءً فعلياً للوجود العسكري الأمريكي في العراق.
لقد طرحت الولايات المتحدة سيناريو “الانسحاب” مراراً وتكراراً خلال العقدين المنصرمين، لكنها لم تبرح أرض العراق فعلياً قط، في كل مرة، يُعاد تقديم المسرحية ذاتها بواجهة مختلفة، تارةً تحت مسمى تحوير المهمة إلى “تدريبية واستشارية”، وتارةً أخرى تحت غطاء نقل القواعد، وأحياناً تحت لافتة “تقليص القوات”.
بهذا المنظار، تتجلى الحقيقة ساطعةً: الوجود العسكري الأمريكي لا يزال راسخاً، والقواعد الجوية والبرية تنبض بالحركة، والطائرات المسيرة والقوات الخاصة تجوب بحرية في سماء العراق وأرضه، وفي المشهد الراهن، لن يطرأ تغيير جوهري سوى نقل عدد محدود من القوات من مواقعها إلى إقليم كردستان، دون أي بادرة لانسحاب شامل.
لذا، فإن استمرار نشاط القوات الأمريكية بصيغة مستحدثة، بما في ذلك ما تسمى الشراكة الأمنية الثنائية، ليس سوى خداع لمواصلة الاحتلال ومجرد تبديل للموقع من نقطة إلى أخرى، تدرك واشنطن تمام الإدراك أن الانسحاب الكامل سيعني أفول نجم نفوذها الاستراتيجي في قلب غرب آسيا، وهذا يتنافى جذرياً مع أهدافها الكبرى، فالعراق، بحكم موقعه الجغرافي الفريد وثقله السياسي، يمثّل نقطة ارتكاز محورية للنفوذ والهيمنة على اللاعبين الإقليميين والدوليين، وسيكون جلاء الولايات المتحدة منه مكسباً استراتيجياً لمنافسي واشنطن.
من زاوية أخرى، في خضمّ فترةٍ يشهد فيها غرب آسيا واحدةً من أشدّ حقبات تاريخه المعاصر اضطراباً، مع بلوغ المواجهة بين محور المقاومة والكيان الصهيوني ذروتها، يبدو تصور انسحاب الولايات المتحدة من العراق، أقرب إلى سراب خادع منه إلى حقيقة ملموسة.
لن تفرط واشنطن في العراق في مثل هذا المنعطف التاريخي الدقيق، لأنها تحتاج إلى حضور دائم وفاعل في هذه البقعة الجغرافية الاستراتيجية لتحقيق مخططات تل أبيب في إطار مشروع “الشرق الأوسط الكبير”، تدرك الولايات المتحدة يقيناً أن الكيان الصهيوني، من دون سند عسكري وأمني مباشر منها، سيعجز عن المضي قدماً في خططه الاستعمارية التوسعية، ولهذا السبب الجوهري، ليست مستعدةً لمغادرة العراق في هذه اللحظة المفصلية، بل تسعى حثيثاً إلى إعادة تشكيل وجودها بقوالب متنوعة، لتظلّ متربعةً إلى جانب حليفها الاستراتيجي.
جلاء أمريكا لا يخلق فراغاً أمنياً
تتردد هذه الأيام في الفضاء السياسي والإعلامي العراقي، وخاصةً من أبواق التيارات المتغربة، مقولة مفادها بأنه مع جلاء القوات الأمريكية سينشأ فراغ أمني هائل بالنظر إلى التهديدات المحدقة من سوريا، بيد أن واقع الميدان يروي قصةً مغايرةً تماماً.
أولاً، لم يجلب الوجود العسكري الأمريكي في العراق الأمن المنشود قط، بل كان هذا الوجود نفسه منبعاً للعديد من بؤر التوتر وانعدام الاستقرار، حتى تنظيم “داعش” الذي يتشدّق الغرب اليوم بمكافحته، تبلور وترعرع في ظل سياسات ومساعدات أمريكية صريحة وخفية في سوريا والعراق.
خلافاً لمزاعم الأمريكيين الجوفاء، لم تكن القوات الأجنبية هي التي أطاحت بداعش وكسرت شوكته، بل كان شعب العراق وقواته المسلحة والمرجعية الدينية الرشيدة وفصائل المقاومة، هم من استطاعوا سحق هذا الوحش الذي صنعته أيادي الغرب الماكرة.
وعليه، فإن جلاء القوات الأجنبية لن يحدث ثغرةً أمنيةً، بل سيمهّد الطريق لاستقلال العراق الحقيقي وتعزيز قدراته الذاتية للحفاظ على أمنه واستقراره، ولقد برهنت فصائل المقاومة مراراً وتكراراً على كفاءتها الفائقة في صون أمن بلادها، دون الحاجة إلى قوات غازية.
ثانياً، كان الوجود الأمريكي، بدلاً من إرساء دعائم الأمن، يغذّي التحديات الأمنية في العراق ويؤجّج نيرانها، لم تسعَ الولايات المتحدة يوماً كحليف صادق إلى تعزيز الاستقلال الأمني لبغداد، بل آثرت دوماً إبقاء العراق واهن القوى، ليتسنى لها تبرير استمرار وجودها على أرضه.
يشكّل سلوك وممارسات السفير الأمريكي في بغداد خلال السنوات المنصرمة، شاهداً دامغاً على هذا النهج الخبيث. من التدخل السافر في الملفات السياسية، إلى محاولات إذكاء نار الاضطرابات الاجتماعية، وكل ذلك يكشف بجلاء أن واشنطن سعت جاهدةً إلى زعزعة استقرار العراق وتفكيك فصائل المقاومة، وهو المسعى الذي يتابعه البيت الأبيض بهمة متزايدة في الأشهر الأخيرة.
يأتي هذا في وقتٍ أضحت فيه هذه الفصائل المقاومة صمام أمان لاستقرار العراق وأمنه الداخلي، قوة نبعت، على خلاف الوجود الأجنبي الدخيل، من صميم نسيج المجتمع وتمكنت من الاضطلاع بدور محوري في صون استقرار البلاد وحفظ كرامتها.
أبناء العراق لا تنطلي عليهم الحيل
يبدو أن أرباب البيت الأبيض يستخدمون هذه المرة أيضاً الأسلوب القديم نفسه، ومن خلال نقلٍ ظاهري للقوات على الأراضي العراقية، يرومون الإيحاء بأن نواياهم حميدة وأن مهمتهم ستقتصر على التدريب أو تقديم المشورة فحسب، لكن التجارب المريرة أثبتت أن هذا التبديل في المسميات، ليس سوى تلاعب بالألفاظ وذرّ للرماد في العيون.
هذه المرة، لن تنطلي الخدعة على الشعب العراقي وقادة المقاومة التي اكتوت بنار السياسات الخفية لواشنطن والسوداني، تسعى واشنطن، من خلال تسويق خطة مستحدثة تحت عنوان “الشراكة الأمنية”، إلى إضفاء هالة من الشرعية على وجودها العسكري في العراق، بيد أن أبناء العراق وقادة المقاومة أدركوا بعين البصيرة أن ثمرة هذا الوجود المشؤوم، لم تكن سوى زعزعة الاستقرار والتدخل السافر في الشؤون الداخلية.
لن تنخدع فصائل المقاومة، التي حملت على عاتقها العبء الأكبر في مكافحة الإرهاب وتوفير الأمن، بمثل هذا المكر والدهاء، لقد أعلنوا بلسان الصدق والوضوح أن نقل القوات لن يغير من جوهر القضية شيئاً، وأن القوات الأمريكية لم تعد قادرةً على نسج مظلة أمنية جديدة لنفسها، والإفلات من قبضة المقاومة الحديدية.