الوقت- تتكاثر نذر المواجهة الوشيكة بين الأكراد والدولة السورية، ولا سيما في أعقاب مؤتمر الحسكة الأخير (9 أغسطس 2025)، الذي جمع طيفاً واسعاً من الشخصيات الكردية والدرزية السورية تحت سقف واحد.
وفق ما أوردته صحيفة الأخبار، وصفت السلطات السورية في دمشق هذا المؤتمر بأنه انقلاب صريح على ما أُبرم في اتفاقية العاشر من مارس بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، قائد وحدات حماية الشعب الكردية (YPG).
خلال وقائع مؤتمر الحسكة، ارتفعت أصوات الحاضرين مطالبةً ببناء دولة فيدرالية ذات دستور جديد واستقلال ثقافي وعرقي، لم تتوانَ دمشق في وصف هذا التجمع بأنه مدفوع بنزعات انفصالية، ما دفعها إلى العزوف عن المشاركة في اللقاءات اللاحقة المزمع عقدها في باريس.
نجحت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تشكّل العناصر الكردية عمودها الفقري، على مدار السنوات الماضية، وبدعم من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، في بسط نفوذها على رقعة شاسعة من شمال وشرق سوريا، هذه السيطرة، وإن أثمرت نجاحات على الصعيدين الأمني والعسكري، ظلت تعاني من أزمة شرعية متجذرة على المستوى السياسي.
سعت حكومة الجولاني، متسلحةً بدبلوماسية نشطة ومفاوضات إقليمية، إلى صهر قوات سوريا الديمقراطية في بنية الجيش السوري، وإعادة زمام الأمور في مناطق الشمال الشرقي إلى حضن الحكومة المركزية، بيد أن هذا المسعى اصطدم بعقبات جمة. فالتباينات الهوياتية، وهواجس الأكراد المحلية إزاء تقليص هامش حكمهم الذاتي، وانعدام الثقة بتعهدات الحكومة المركزية، كلها عوامل أسهمت في تعقيد هذا المسار.
ظلت العلاقة بين دمشق والأكراد محل رصدٍ حذر وترقبٍ قلق منذ أمد بعيد، غير أنها اليوم تبدو متجهةً صوب مواجهةٍ عسكرية لا تُحمد عقباها.
شهدت حدود دير الزور والرقة في الآونة الأخيرة اشتباكات دامية جديدة بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات القبلية، فضلاً عن عناصر الأمن العام السوري، في مدن غرانيج وكشكية وأبو حمام وهجين، ومن جهة قرية المغلة قرب مدينة معدان، وفي محيط قرية البو حمد بريف الرقة، تأتي هذه التطورات في أعقاب مناوشات مماثلة اندلعت قبل أيام في أنحاء متفرقة من مدينة دير الزور وريف الحسكة وحلب، وأسفرت عن سقوط قتلى من الجانبين.
ولقد تعاظمت احتمالات تصاعد المواجهات، وخاصةً في ظل مساعي حكومة دمشق للإطباق على منابع النفط في دير الزور والسدود المقامة على نهر الفرات لتلبية احتياجات شتى المناطق السورية، وزاد الطين بلةً تدهور الأوضاع الاقتصادية في سوريا، وتبخر الوعود المالية الغربية والعربية لدمشق، والضغوط التركية لحل الفصائل شبه العسكرية الكردية (قسد ووحدات حماية الشعب) وإدماجها في صفوف الجيش.
قبل أسابيع، كشفت مصادر تركية عن عزم أنقرة على الاشتباك مع الأكراد، بالتنسيق مع القوات السورية، ما لم تلق الوحدات الكردية سلاحها وتذعن لاتفاق الاندماج مع دمشق الذي أُبرم في مارس المنصرم، ومن الواضح أن تركيا تضغط على النظام السوري لدفعه نحو تشديد قبضته على قوات سوريا الديمقراطية.
وفي خطوةٍ ذات دلالة بالغة تزامنت مع تحركات الأكراد، اتجهت دمشق وأنقرة نحو توطيد أواصر التعاون العسكري بينهما، فقد حطّ وفد سوري رفيع المستوى رحاله في أنقرة الأربعاء الماضي، ضمّ أسعد الشيباني وزير الخارجية، ومرهف أبو قصرة وزير الدفاع، وإبراهيم سلامة رئيس المخابرات.
وأجرى الوفد خلال الزيارة مباحثات مستفيضة مع نظرائه الأتراك حول قضايا سياسية وأمنية، كما تُوجت الزيارة بتوقيع مذكرة تفاهم عسكرية تمثّل خطوةً نحو تعاون أمني دائم بين الطرفين، وتعكس تناغماً متزايداً بشأن ملف شمال سوريا.
وفق ما نقلته وكالة الأناضول عن وزارة الدفاع التركية، تجسّد مذكرة التفاهم هذه استمرار التزام تركيا بمؤازرة سوريا في مكافحة الإرهاب وتعزيز قدراتها الدفاعية والأمنية، وأوردت وكالة رويترز نقلاً عن مصدر في وزارة الدفاع التركية، أن بلاده ستزوّد سوريا بمنظومات تسليح ومعدات لوجستية بموجب اتفاقية التعاون العسكري التي أُبرمت، وأضاف إن أنقرة ستتولى تدريب الجيش السوري على كيفية استخدام هذه المعدات “متى دعت الضرورة”.
وكان موقع “ميدل إيست آي” البريطاني قد كشف في أبريل الماضي، نقلاً عن مصادر مطلعة لم يفصح عن هويتها، أن تركيا تعكف على إنشاء قاعدة دفاع جوي في مطار تي4 العسكري قرب تدمر في حمص، وسط سوريا، ووفقاً للموقع، تعتزم أنقرة تشييد هذه القاعدة لشنّ هجمات على تنظيم "داعش" وصدّ الغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا.
وحسب هذه المصادر، سيجري نشر منظومة دفاع جوي “حصار” في تي4 لتوفير مظلة جوية للقاعدة، ما يمكّن تركيا من إحكام السيطرة الجوية على المنطقة، كما تعتزم أنقرة إقامة منظومة دفاع جوي متعددة الطبقات داخل القاعدة ومحيطها، بقدرات دفاعية قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى للتصدي لمختلف التهديدات، من الطائرات النفاثة إلى المسيرات والصواريخ.
ونوّه الموقع إلى أن وجود أنظمة الدفاع الجوي والطائرات المسيرة التركية، سيشكّل على الأرجح رادعاً للغارات الجوية الإسرائيلية في المنطقة.
في خضم هذه الأجواء المشحونة، يطفو على السطح سؤال جوهري: هل سيُستنسخ سيناريو السويداء في شمال شرق سوريا، أم إن الولايات المتحدة بصدد إعادة رسم خارطة النفوذ والسيطرة في هذه المناطق، بصورة تضمن مكاسب متبادلة للطرف الكردي وسلطات دمشق؟
من زاوية أخرى، يُثار تساؤل حول ما إذا كان الكيان الصهيوني سينزل إلى حلبة المواجهة مع تركيا ودمشق في مؤازرة الأكراد، على غرار ما فعله في أحداث السويداء، ولا سيما في ضوء تأكيد العديد من المسؤولين الصهاينة سابقاً على ضرورة دعم الأكراد في سوريا والسعي لإقامة كيان مستقل لهم.
وفي وقتٍ تتصاعد فيه لهجة التهديد التركية والسورية ضد الأكراد يوماً بعد يوم، تسربت معلومات عن خطة أمريكية، باعتبار واشنطن الداعم الرئيس لأكراد سوريا، تقضي بأن تعيد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) زمام دير الزور إلى قبضة دمشق، وفي المقابل، تقرّ الحكومة السورية بسيطرة الأكراد على الحسكة والرقة وسائر مناطق شمال شرق سوريا الواقعة تحت سطوتهم.
تأتي الضغوط الأمريكية على القوات الكردية في وقت تعصف فيه الخلافات بهذه الفصائل حول التفاهم مع دمشق، وتشير التقارير السورية المقربة من دمشق إلى انقسام داخل قوات سوريا الديمقراطية بين جناحين متباينين: جناح ينحو نحو مواجهة عسكرية مع القوات السورية ويرفض اتفاق العاشر من مارس بين عبدي والجولاني، بينما يسعى الجناح الآخر إلى الانخراط في مسار سياسي سلمي مع السلطات السورية، على غرار نهج حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا.
عليه، وفي ظل التعقيدات الراهنة، تظل القضية الكردية في سوريا من أكثر الملفات حساسيةً وثقلاً استراتيجياً، وتتعدد السيناريوهات المحتملة لمآلاتها:
تقاسم النفوذ والسيطرة: في أكثر المشاهد تفاؤلاً، قد يرضخ الطرفان للمقترحات الأمريكية بشأن تقاسم النفوذ والسيطرة. وإذا آتت المساعي الدبلوماسية ثمارها، فقد تدمج قوات سوريا الديمقراطية شطراً من عناصرها في صفوف الجيش السوري، مع احتفاظها بصلاحيات محلية وهامش من الحكم الذاتي، ما قد يتيح فرصةً للحفاظ على الاستقرار في المناطق الحساسة عبر درء شبح المواجهة العسكرية.
مواجهة شاملة: في حال تعثر التوصل إلى تفاهم، قد تصعّد تركيا والجيش السوري من وتيرة الضغط العسكري وتحكم قبضتها على المناطق الحدودية، ويمكن أن يفضي تصاعد التوتر بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية، إلى مواجهة أوسع نطاقاً، وقد يسفر هذا السيناريو عن اضطرابات قصيرة الأمد ونزوح للسكان.
اشتباكات محدودة وانتفاضة عربية: قد تنحصر الاشتباكات في مناطق بعينها من دير الزور وريف حلب الشرقي والرقة، حيث تخوض القبائل العربية صراعاً مع قوات سوريا الديمقراطية، يمكن النظر إلى ذلك باعتباره هبّةً محليةً تستثمرها سلطات دمشق لتوسيع دائرة نفوذها، وترسيخ هيمنتها على هذه المناطق.
تبقى هذه السيناريوهات شاهدةً على تعقيد التعاطي مع الملف الكردي، فالتوترات السياسية والأمنية، مقرونةً بالتدخلات التركية والإسرائيلية، تمثّل عوامل محورية يمكن أن ترسم مسار هذه القضية الجوهرية والمتفجرة في سوريا خلال المرحلة المقبلة.
