الوقت- قدّمت يريفان الاتفاقية الجديدة بين أرمينيا وجمهورية أذربيجان في واشنطن، والتي أُبرمت بوساطة وتوقيع دونالد ترامب، على أنها "حدث تاريخي"، لكنها في جوهرها أكثر من مجرد اتفاقية اقتصادية. وتُفتح هذه الوثيقة عمليًا جزءًا من الهندسة الجيوسياسية الجديدة للقوقاز؛ هندسة تهدف إلى تغيير دور الضامنين للأمن، وإعادة تحديد المسارات الاستراتيجية، واستكمال محور أنقرة-باكو-واشنطن. إن كلمة "ممر"، التي أصبحت خطًا أحمر حساسًا بين الأطراف الإقليمية في السنوات الأخيرة، حُذفت عمدًا من نص الاتفاقية واستُبدلت بعبارة "اتصال حر". لكن هذا التغيير اللغوي لا يُغير الواقع على الأرض. فالمسار الجديد يعمل أساسًا كممر، ولكن بغطاء أكثر هدوءًا.
تغيير اسم الممر للحفاظ على الهدف
ينص البند الرئيسي في الاتفاقية على أنه "سيتم إنشاء اتصال حر بين الجزء الرئيسي من جمهورية أذربيجان ونخجوان عبر أراضي جمهورية أرمينيا". ويبدو أن هذه الجملة مُكملة بالتأكيد على "المنافع المتبادلة" لأرمينيا، لكن الحقيقة هي أن منافع الطرف الآخر لم تُذكر بوضوح وبشكل متناسق في النص.
وبالنسبة لباكو، هذا هو نفس المطلب الذي يطالب به إلهام علييف منذ سنوات: المرور عبر الأراضي الأرمينية دون مواجهة نقاط التفتيش الحدودية والإجراءات الجمركية. بالنسبة لأنقرة، يُمثل هذا المعبر استكمالاً لأحلام ممر زانجيزور، الذي سيربط تركيا مباشرةً بأذربيجان، ومنها إلى آسيا الوسطى. كما أن تسمية هذا الطريق بـ"طريق ترامب" تحمل دلالة رمزية في حد ذاتها؛ فهي رسالة مباشرة إلى موسكو مفادها أن الضامن والموقع على الاتفاقية لم يعد الكرملين، بل واشنطن.
تغيير الضامن الأمني؛ خروج روسيا، دخول الولايات المتحدة
من أهم جوانب هذه الاتفاقية نقل الضامن الأمني. ففي البيان الثلاثي لعام ٢٠٢٠ الذي وقّعه بوتين، أُسندت ضمنياً مسؤولية أمن الطرق وإزالة عوائق العبور إلى حرس الحدود الروسي. وبالنسبة لأرمينيا، كان هذا بمثابة ضمان أمني وثقل موازن للضغط من باكو. أما في النموذج الجديد، فيُلغى الوجود العسكري الأجنبي - حتى الروسي - تماماً، وتُوكل مسؤولية الأمن على أراضي كل دولة إلى تلك الدولة. ظاهريًا، يعني هذا "احترام السيادة"، ولكن عمليًا، ستكون للدولة الأقوى (هنا أذربيجان، بدعم من تركيا) اليد العليا في إدارة الطريق. بالنسبة للولايات المتحدة، يُعد هذا التحول فوزًا مزدوجًا. فهو يُقلل النفوذ الروسي في القوقاز ويستبدله بدور واشنطن السياسي كمراقب للاتفاقية. وهذا هو بالضبط النموذج الذي اختبرته الولايات المتحدة في مناطق أزمات أخرى من البلقان إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.
الممر الناعم؛ تكتيك لتجاوز الحساسيات
الفرق بين "الممر الناعم" والممر الرسمي هو أنه يُلغى أي تغيير في السيادة أو الرموز الوطنية، ولكن الوظيفة العملية للطريق تُحفظ. بمعنى أبسط، يبقى العلم ونقطة التفتيش في مكانهما، ولكن تُبسط عملية العبور بطريقة تُفرغ الحدود عمليًا من وظيفتها التقليدية.
ولهذا التكتيك ميزتان: أولًا، يُخفف من الحساسية الداخلية في الدولة المضيفة، لأن السيادة الإقليمية لا تُنتهك ظاهريًا. ثانيًا، الحفاظ على وظيفة استراتيجية للبلد المستفيد، دون الحاجة إلى اتفاقيات أكثر تعقيدًا وتكلفة. وأظهرت تجارب مماثلة في مناطق أخرى أن "الممر المرن" يمكن أن يصبح دولة راسخة بمرور الوقت، وسيكون من الصعب جدًا استعادته إلى حالته السابقة.
الربط بين الشرق والغرب؛ اكتمال الحلقة المفقودة
من منظور جيوسياسي، يُكمل المسار الذي حددته واشنطن الحلقة المفقودة في الربط بين الشرق والغرب في القوقاز. باكو ونخجوان، اللتان كانتا متصلتين ببعضهما البعض حتى الآن عبر الأراضي الإيرانية أو طرق غير مباشرة، سيكون لهما الآن ممر مباشر ودون عوائق.
ولن يُسهّل هذا المسار التجارة بين أذربيجان وتركيا فحسب، بل سيُختصر أيضًا بشكل كبير طريق نقل الطاقة وحتى المعدات العسكرية، إذا لزم الأمر. هذه هي النقطة التي يضعها حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة نصب أعينهما. إنشاء طريق نقل آمن وسريع في قلب القوقاز يربط شرق البحر الأبيض المتوسط بآسيا الوسطى دون المرور عبر الأراضي الإيرانية والروسية.
الإضرار بالطرق المتنافسة؛ الضغط على الممر الشمالي-الجنوبي
في السنوات الأخيرة، سعت إيران إلى إدخال وتعزيز الممر الشمالي-الجنوبي كطريق اتصال أوراسي رئيسي، بالتعاون مع روسيا والهند. إلا أن إنشاء طريق ترامب سيُحوّل جزءًا من حمولة النقل في القوقاز نحو تركيا. وفي حال ترسيخ هذا التوجه، قد تفقد طهران بعضًا من دخلها ونفوذها الجيوسياسي في المنطقة. ورغم أن هذا الطريق لا يقطع خطوط النقل الإيرانية بشكل مباشر، إلا أن المنافسة على الوقت والتكلفة وأمن الطرق قد تُرجّح كفة الممر الجديد تدريجيًا.
احترام ظاهري للسيادة؛ تفوق عملي لباكو
ينص نص الاتفاقية على أن أمن الطريق على أراضي كل دولة هو مسؤولية تلك الدولة. قد تبدو هذه الجملة للوهلة الأولى دلالة على الاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، لكن الواقع على الأرض مختلف. والدولة ذات القوة الاقتصادية والعسكرية الأكبر ستكون أكثر سيطرة على الوضع عمليًا. فبدون آليات مراقبة قوية والتزامات متبادلة مكتوبة، قد تُجبر أرمينيا على تقديم المزيد من التنازلات تحت ضغط سياسي أو اقتصادي. لا سيما وأن التجارب السابقة مع طرق مماثلة أظهرت أن الطرف الأقوى يمكنه المطالبة بتنازلات جديدة من خلال التهديد بإغلاق الطريق أو فرض قيود.
الأبعاد الجيواقتصادية: فرصة أم تهديد للمنطقة؟
من منظور اقتصادي، يمكن للطريق الجديد أن يقلل من وقت وتكاليف العبور بين تركيا وباكو. وهذا أمر جذاب لشركات النقل والتجارة الإقليمية. ولكن على المستوى الاستراتيجي، فإن تركيز الطرق على محور أنقرة-باكو-واشنطن يعني تشكيل قطب قوة اقتصادية جديد قد يهمّش الطرق البديلة - بما في ذلك إيران. ويمكن أن يصبح هذا الممر أيضًا منصةً لمشاريع أكبر تُصمَّم تحت ستار "التعاون الاقتصادي الإقليمي"، لكنها في الواقع مُصمَّمة لأهداف جيوسياسية.
رسالة إلى طهران وموسكو: إلغاءٌ ناعمٌ بلا تكلفة
من وجهة نظر طهران وموسكو، تحمل اتفاقية واشنطن رسالةً واضحة. يمكن تهميش دورهما في قضية استراتيجية دون صراع مباشر ودون تكاليف باهظة. إن إبعاد روسيا عن دور الضامن الأمني والتخلي عن المسارات الإيرانية، دون أي إعلان رسمي أو جدل إعلامي، يُظهر قدرة واشنطن على استخدام "أدوات جيوسياسية ناعمة".
وبنفس المنطق، حاول باشينيان تهدئة مخاوف إيران وروسيا؛ قائلاً إن هذا المشروع "فرصة لبدء تعاون اقتصادي بين إيران والولايات المتحدة، وكذلك بين الولايات المتحدة وروسيا". لكن التجارب السابقة تُظهر أن مثل هذه الفرص غالبًا ما تكون دعائية ولا تُحدث تغييرات حقيقية في معادلات القوة.
اختبار أول نموذج للممر الناعم في القوقاز
يمكن اعتبار اتفاقية واشنطن أول مثال جدي على تطبيق نموذج "الممر الناعم" في القوقاز. إذا نجح هذا النموذج، أي أن المسار أصبح عمليًا دون عوائق ولم يُثر أي رد فعل محلي أو أجنبي خطير، فإن احتمال تكراره في مناطق صراع أخرى مرتفع. وقد يشمل ذلك المناطق الحدودية في آسيا الوسطى، أو الشرق الأوسط، أو حتى أوروبا الشرقية، حيث تكون الحساسية للتغييرات في الحوكمة عالية، وسيكون تكتيك "تغيير الوظيفة دون تغيير المظهر" هو الأداة الأمثل لتحقيق الأهداف الجيوسياسية.
بشكل عام، يمكن الإقرار بأن اتفاقية ترامب بين يريفان وباكو ليست مجرد وثيقة اقتصادية أو تجارية؛ بل هي مشروع متعدد الطبقات، حيث تُشكّل اللغة الناعمة والمفردات الحذرة غطاءً لتغييرات حقيقية على أرض الواقع. وفي هذا السياق، حل مصطلح "التواصل دون عوائق" محل مصطلح "الممر"، ولكنه يحمل نفس التأثير. فقد تخلت روسيا عن دورها كضامن للأمن، ودخلت الولايات المتحدة كمراقب. لقد اكتمل محور أنقرة-باكو-واشنطن، ووُضعت الطرق المنافسة، بما في ذلك إيران، تحت الضغط. في نهاية المطاف، ما بدأ في القوقاز ليس مشروعًا تنمويًا، بل جزء من هندسة جيوسياسية هادئة؛ هندسة قد تُغير موازين القوى في المنطقة جذريًا، إن لم تُعالج.
وبالطبع، تجدر الإشارة إلى أنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق بين بوتين وترامب بشأن الأزمة الأوكرانية، فمن المحتمل أن تُضعف موسكو هذا الاتفاق، ويجب ألا نبالغ في اعتبار هذا الاتفاق دليلًا على وجود وتوسع الغرب وحلف شمال الأطلسي على الحدود الشمالية لإيران.