الوقت- في وقتٍ تتزايد فيه التحذيرات من عودة تنظيم «داعش»الارهابي إلى المشهد السوري، وتتصاعد التحديات الأمنية أمام الحكومة الجديدة في دمشق، تتجه واشنطن نحو تقليص الدعم المخصص لـ«قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بحلول عام 2026. هذا التحول في الموقف الأميركي يطرح تساؤلات حول أسبابه الحقيقية: هل هو انسحاب تدريجي من الساحة السورية أم إعادة تموضع تمهيداً لصفقات جديدة مع أطراف إقليمية؟
يأتي ذلك بينما لا تزال خريطة السيطرة في سوريا هشة، والحدود بين مناطق النفوذ عرضة للتغيير في أي لحظة، وسط سباق محموم بين القوى المحلية والإقليمية لملء أي فراغ أمني محتمل. كما أن تجارب السنوات الماضية تثبت أن أي تراجع في الحضور الأميركي قد يفتح المجال لعودة جماعات متطرفة لطالما شكّلت تهديداً عابراً للحدود.
الأرقام تكشف المسار
وفقاً لتقارير وزارة الدفاع الأميركية، بلغ حجم الدعم المالي المخصص لـ«قسد» في العامين الماليين 2024–2025 نحو 156 مليون دولار، وهو موجه لتغطية الرواتب، الدعم اللوجستي، وتطوير البنية التحتية. غير أن التوقعات تشير إلى تراجع هذا المبلغ إلى حوالي 129.9 مليون دولار بحلول 2026.
هذه الخطوة تأتي ضمن خطة أوسع لإعادة توزيع القوات الأميركية في المنطقة، مع تحويل جزء من الموارد والوجود العسكري إلى العراق، وتقليص الانخراط المباشر في شمال وشرق سوريا.
التوقيت.. دلالات ورسائل
توقيت القرار الأميركي يثير علامات استفهام، إذ يأتي في ظل ظروف أمنية متدهورة في سوريا، حيث يحاول تنظیم «داعش» الارهابي إعادة تنظيم صفوفه واستغلال الفراغات الأمنية. فبحسب تقييمات استخبارات البنتاغون، زادت الهجمات التي يشنها التنظيم في مناطق الحسكة ودير الزور، مستهدفاً مقاتلي «قسد» والمدنيين عبر العبوات الناسفة والهجمات الخاطفة.
اللافت أن واشنطن، رغم علمها بتنامي هذه التهديدات، اختارت المضي في خطة تقليص الدعم، ما يوحي بأن القرار ليس مجرد إجراء مالي أو عسكري، بل يعكس حسابات سياسية أوسع قد تشمل ترتيب تفاهمات مع أنقرة أو حتى دمشق بطريقة غير مباشرة.
الفراغ الأمني.. فرصة ذهبية لـ«داعش»
التراجع الأميركي يهدد بفتح الباب أمام تنظیم «داعش» الارهابی لتوسيع عملياته، خاصة في ظل ضعف قدرات الجيش السوري الجديد الذي تولى الحكم بعد سقوط نظام بشار الأسد في أواخر 2025. التقارير تشير إلى أن القوات الحكومية، رغم سيطرتها الاسمية على أغلب الأراضي السورية، تعاني من إرهاق ميداني ونقص في الكفاءات القيادية، إضافة إلى تعدد مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية نفسها.
الهجمات الأخيرة للتنظيم، بما في ذلك تفجير شاحنة في السويداء ومخططات تم إحباطها في حلب، تدل على أن «داعش» لا يزال يملك شبكة عمل نشطة، حتى وإن أخفق في تنفيذ بعض عملياته الكبرى. وفي حال تراجع الدعم الأميركي عن «قسد»، فإن هذه الشبكة قد تجد بيئة أكثر ملاءمة للتوسع.
تشابك المصالح الإقليمية
المشهد السوري اليوم ليس فقط ساحة صراع بين قوات محلية وتنظيمات متطرفة، بل هو لوحة معقدة من التنافس الإقليمي والدولي:
تركيا: تتحرك أنقرة بثبات لتعزيز نفوذها في الشمال السوري، سواء عبر تفاهمات أمنية مع «هيئة تحرير الشام» بقيادة الجولاني، أو من خلال مشاريع اقتصادية كإمداد سوريا بالغاز والكهرباء. تقليص الدعم الأميركي لـ«قسد» يصب بشكل غير مباشر في مصلحة تركيا، التي تعتبر هذه القوات تهديداً أمنياً مباشراً.
الکیان الاسرائیلي: تواصل تل أبيب تنفيذ ضربات دقيقة داخل الأراضي السورية، مستهدفة مخازن السلاح والبنية التحتية العسكرية، خصوصاً تلك التي تعتبرها تهديداً لعمقها الاستراتيجي. هذه الضربات تساهم أيضاً في إضعاف القدرات العسكرية السورية بشكل عام، وتزيد من تعقيد المشهد الأمني.
روسيا: رغم انشغال موسكو بملفات دولية أخرى، لا تزال روسيا طرفاً أساسياً في المعادلة السورية، محافظة على وجود عسكري وسياسي يتيح لها التأثير في مسار الأحداث. استمرار تراجع الدور الأميركي قد يمنحها مجالاً أوسع لترسيخ نفوذها، سواء عبر دعم الحكومة السورية أو عبر تحركات دبلوماسية مع أطراف إقليمية.
هل نحن أمام صفقة غير معلنة؟
من منظور استراتيجي، قد يكون تقليص الدعم الأميركي جزءاً من تفاهمات أكبر تشمل ملفات إقليمية أخرى، كالتقارب التركي–الأميركي، أو إعادة ترتيب الأولويات الأميركية في مواجهة الصين وروسيا.
هناك أيضاً احتمال أن يكون هذا التوجه محاولة لاختبار قدرة «قسد» على الاعتماد على نفسها أو البحث عن مصادر دعم بديلة، بما فيها قنوات غير مباشرة مع دمشق أو حتى بعض الدول الأوروبية.
التداعيات المحتملة
إذا استمر مسار تقليص الدعم من دون خطة بديلة واضحة، فإن ذلك قد يؤدي إلى:
1. تراجع فعالية «قسد» في حفظ الأمن بالمناطق الخاضعة لها، ما يتيح لـ«داعش» إعادة التمركز.
2. تعاظم نفوذ تركيا في شمال سوريا، مع احتمال توسيع عملياتها ضد المقاتلين الأكراد.
3. تزايد الفوضى الأمنية، خاصة في المناطق الغنية بالموارد مثل دير الزور والحسكة، مما قد يشعل سباقاً جديداً للسيطرة على النفط والغاز.
4. تأثير سلبي على المدنيين الذين يعيشون في مناطق «قسد»، حيث قد تتراجع الخدمات والأمن مع انحسار التمويل.
في النهاية، إن خطوة واشنطن لتقليص دعمها المالي والعسكري لـ«قسد» لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحولات الجيوسياسية في المنطقة. فالقرار، مهما كانت مبرراته، يحمل في طياته مخاطر إعادة إنتاج الفوضى التي عرفتها سوريا في ذروة صعود «داعش».
المرحلة المقبلة ستكشف إن كان هذا التراجع مقدمة لانسحاب أوسع وتخلٍّ عن الشركاء المحليين، أم أنه مجرد إعادة تموضع تكتيكي في لعبة الشطرنج الإقليمية. لكن المؤكد أن أي فراغ أمني في سوريا لن يبقى طويلاً من دون أن يملأه لاعب جديد، وغالباً لن يكون هذا اللاعب من دعاة الاستقرار.