الوقت - “إسرائيل لا تعرف كيف تتعامل مع معضلة اليمن”، ليست هذه مجرد عبارة عابرة، بل هي عنوان رئيسي في صحيفة “هآرتس” العبرية، التي أشارت إلى عجز تل أبيب وحيرتها أمام مواجهة القوى اليمنية، خلال اليومين الماضيين، أطلقت القوات اليمنية من صنعاء بضعة صواريخ باليستية نحو أهداف في فلسطين المحتلة، ما شكّل تهديدًا جديًا للصهاينة، وأثبت أن اليمن بمفرده قادر على تحدي الجيش الإسرائيلي، وفي هذا السياق، تحدثت مصادر إسرائيلية عن حالة من الارتباك في تل أبيب بشأن كيفية التعامل مع التحدي اليمني.
الراية البيضاء الأمريكية أمام صنعاء
في السادس من مايو، أي قبل نحو شهرين، أعلن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أن الولايات المتحدة ستوقف هجماتها على اليمن، وكانت أمريكا قد بدأت هجماتها الجوية ضد اليمن في الخامس عشر من مارس، إلا أن سلطنة عمان، الجارة الشرقية لليمن، أعلنت فجأةً أنها ستتوسط لإنهاء النزاع بين الولايات المتحدة وأنصار الله في اليمن.
لكن نهاية الحرب الأمريكية التي استمرت سبعة أسابيع لم تكن تعني استسلام اليمنيين، إذ لم تتمكن الهجمات الجوية المكثفة التي شنّتها الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي استمرت 53 يومًا، من كبح الهجمات اليمنية دفاعًا عن غزة، وفي نهاية المطاف، اضطرت إدارة ترامب إلى قبول وقف إطلاق النار بعد تكبّدها خسائر فادحة، بما في ذلك فقدان ثلاث طائرات مقاتلة، ومع ذلك، أعلن اليمنيون بوضوح أن وقف إطلاق النار لا يعني توقف هجماتهم ضد "إسرائيل".
دخول اليمن في حرب غزة
قبل نحو شهرين، أطلقت القوات اليمنية صاروخًا بعيد المدى باتجاه "إسرائيل"، وعلى الرغم من أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية رصدت الصاروخ، إلا أنها لم تتمكن من اعتراضه، فسقط بالقرب من مطار بن غوريون الدولي، مخلّفًا حفرةً كبيرةً وأدى إلى إصابة عدد من الأشخاص بجروح، وفي تلك الأثناء، أعلنت القوات الجوية الإسرائيلية أن السبب المحتمل لفشل اعتراض الصاروخ، يعود إلى خلل تقني في منظومة الدفاع.
لم تكن تلك الضربة الأولى ولا الأخيرة من اليمنيين ضد الصهاينة، فقد شنّ الجيش اليمني خلال الأشهر العشرين الماضية عشرات الهجمات على "إسرائيل" بالتزامن مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، وبدأت القوات اليمنية هجماتها على "إسرائيل" بعد حرب غزة باستهداف الموانئ الجنوبية لـ "إسرائيل"، والاعتداء على السفن في البحر الأحمر، ما أدى إلى فرض حصار على حركة الملاحة البحرية المتجهة إلى الکيان الإسرائيلي.
حتى الآن، شنّت "إسرائيل" ما لا يقل عن ثماني جولات من الهجمات الجوية على اليمن، وكان من أبرزها هجوم كبير جاء ردًا على سقوط صاروخ يمني بالقرب من مطار بن غوريون.
على الرغم من تسخير كلّ القوة الجوية لـ "إسرائيل" والولايات المتحدة وبريطانيا ضد اليمنيين، إلا أن هذا الشعب أثبت أن هزيمته في الحرب ليست بالأمر الهيّن، بل إن اليمنيين، قبل ذلك، نجحوا في الصمود أمام التحالف العسكري الذي قادته السعودية بين عامي 2015 و2022، وانتهى الأمر بأن قبلت السعودية وقف إطلاق النار مع اليمن.
لماذا من الصعب هزيمة اليمن؟
في عام 2015، حينما قامت قوات أنصار الله بتشكيل حكومة في صنعاء، تدخّلت الرياض لدعم خصوم أنصار الله في اليمن، اعتمدت السعودية على الطائرات الحربية والذخائر الحديثة المصنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك، لم يقتصر صمود الجيش والحكومة في صنعاء على مقاومة القصف السعودي وحلفائه، بل شهدت صنعاء خلال ذلك الفترة تطوراً ملحوظاً في قدراتها العسكرية، فعلى سبيل المثال، ترافق العدوان السعودي ضد اليمن مع تحسين مدى الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة الهجومية التي يمتلكها اليمنيون.
وبنظرة عامة، يمكن القول إن كل المحاولات لوقف تقدّم القوات اليمنية باءت بالفشل لعدة أسباب، يمكن إيجازها على النحو التالي:
القدرة الصاروخية لليمن:
أولاً، ينبغي الإشارة إلى أن الجيش اليمني وقوات أنصار الله أثبتوا قدرتهم على تصنيع صواريخ بعيدة المدى ونشرها داخل الأراضي اليمنية، وخلال السنوات الماضية، عمل اليمنيون على تخزين كميات كبيرة من المواد اللازمة لتصنيع الصواريخ، أو الحصول عليها من خلال المسارات البحرية.
اتساع المساحة الجغرافية لليمن:
ثانياً، لا يمكن تجاهل اتساع الرقعة الجغرافية لليمن، ما يتيح للجيش اليمني إخفاء منصات إطلاق الصواريخ في مواقع متعددة، ويضمن استمرار إطلاق الصواريخ من أماكن متفرقة. ووفق التقارير، يستخدم الجيش اليمني صواريخ تعمل بالوقود السائل والصلب على حد سواء، ما يجعل عمليات الكشف والتصدي لها أكثر تعقيداً.
القدرات في الطائرات المسيّرة:
ثالثاً، لقد عزّزت القدرة اليمنية على إنتاج واستخدام الطائرات المسيّرة من إمكانياتهم العسكرية، فاليوم، أصبح اليمنيون يمتلكون تقريباً مختلف أنواع الطائرات المسيّرة. على سبيل المثال، شوهدت الطائرة المسيّرة “شاهد 136” لأول مرة في اليمن عام 2021، إضافةً إلى طائرات مسيّرة حربية أخرى باتت ضمن ترسانة الجيش اليمني.
ضعف الدفاعات الجوية الإسرائيلية:
رابعاً، الإخفاق الإسرائيلي في مواجهة القوات اليمنية من صنعاء، يعكس تحدياً أكبر لكل من الولايات المتحدة و"إسرائيل". فرغم أن الجيش الإسرائيلي يدّعي نجاحه في اعتراض أكثر من 95% من الصواريخ التي تُطلق من اليمن، إلا أن بعض تلك الصواريخ ما زال يخترق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ويصل إلى أهدافه داخل فلسطين المحتلة، وهذا يعني أن الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وكذلك عمليات القصف المتكررة ضد اليمن، لم تنجح حتى الآن في الحدّ من التحدي اليمني.
استحالة التدخل البري:
خامساً، يبقى خيار التدخل البري في اليمن غير وارد، سواء بالنسبة للولايات المتحدة أو "إسرائيل"، لما أثبتته التجارب التاريخية من صعوبة ذلك. ففي ستينيات القرن الماضي، تدخلت القوات المصرية في اليمن لدعم الجمهورية اليمنية الشمالية ضد الملكيين الذين كانوا مدعومين من الرياض، إلا أن مصر لم تتمكن من هزيمة الملكيين في ذلك الحين، واليوم، رغم تغيّر الظروف السياسية، إلا أن الجغرافيا اليمنية لا تزال صعبةً كما كانت، إذ إن اتساع مساحة الأراضي اليمنية وتعقيد تضاريسها يجعل التدخل البري تحدياً مكلفاً، يفضّل الجميع عدم خوضه.
الأمر لا يتوقف عند التكلفة العسكرية والاقتصادية للتدخل البري، بل يتعداه إلى المخاوف من الوقوع في “مستنقع” جديد في الشرق الأوسط، مثلما حدث في نزاعات سابقة. إذ إن دخول هذا المستنقع قد يكون سهلاً، لكن الخروج منه قد يكلّف أثماناً باهظةً ويأخذ سنوات طويلة، لذلك، يبدو أن كلا من الولايات المتحدة و"إسرائيل" لا ترغب في خوض مغامرة جديدة كهذه.