الوقت - رغم ادعاءات بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الصهيوني، بشأن تحقيق نصرٍ في الحرب التي استمرت اثني عشر يومًا مع إيران، فإن الحقائق الميدانية والنتائج الشاملة للصراع كشفت عن أعباءٍ باهظةٍ أُلقيت على المجتمع الصهيوني. هذه الأزمة متعددة الأبعاد لم تقتصر على ساحة المعركة، بل امتدت إلى خسائر إنسانية واقتصادية واجتماعية، خلّفت شروخًا عميقةً في بنية المجتمع، بحيث يرى بعض المحللين أن تجاوز هذه الوضعية وإعادة بناء الثقة وإصلاح الهياكل السياسية والاجتماعية، يتطلبان زمنًا وجهودًا مضنيةً.
الهزيمة العسكرية للکيان الصهيوني في مواجهة إيران
شكّلت الحرب بين إيران والکيان الصهيوني نقطةً فاصلةً في تقييم القدرات الدفاعية والاستراتيجية لهذا الكيان. وعلى الرغم من الترويج الإعلامي والسياسي الذي تبناه نتنياهو بحديثه عن “نجاح الردع”، فإن الواقع العملي كشف عن صورة مختلفة تمامًا، وأظهر هشاشة البنية العسكرية للکيان، ما أطاح بأسطورة “عدم الهزيمة” التي طالما أحاطت به.
لقد أثبتت الحرب عجز الأنظمة الدفاعية المتطورة للکيان الصهيوني، مثل القبة الحديدية، وآيرون دوم، ومقلاع داوود، وصواريخ السهم، عن اعتراض نسبة كبيرة من الصواريخ والطائرات المُسيّرة الإيرانية. هذا الفشل لم يضع فقط فعالية هذه الأنظمة موضع تساؤل، بل فضح مجددًا نقاط الضعف الاستراتيجية والهشاشة البنيوية للمنظومة العسكرية الصهيونية أمام الهجمات المكثفة والدقيقة.
ففي هذه المعركة، أُطلقت أكثر من 550 صاروخًا باليستيًا إيرانيًا، إلى جانب مئات الطائرات المُسيّرة، باتجاه المنشآت العسكرية الحيوية للکيان الصهيوني. ورغم نجاح الدفاعات متعددة الطبقات في اعتراض بعض الهجمات، فإن العديد من القواعد العسكرية الرئيسة تعرضت لضربات مباشرة.
ومن أبرز المواقع المستهدفة قاعدة “نفاتيم”، التي تُعد إحدى أهم قواعد القوات الجوية الصهيونية، حيث تتمركز فيها الطائرات المتقدمة من طراز F-35. وقد تعرضت هذه القاعدة لعدة صواريخ مباشرة، وأكدت صور الأقمار الصناعية والتقارير الدولية وقوع أضرار في مرافق الصيانة والطرق والمباني الإدارية داخلها. وتشير مصادر إيرانية إلى إصابة القاعدة بما يتراوح بين خمسة إلى تسعة صواريخ.
كما تعرضت قاعدة “هاتزريم”، التي تضمّ أسراب طائرات F-15، لأضرار كبيرة أدت إلى توقفها عن العمل مؤقتًا. ولم يكن مقر “كريا” في تل أبيب، الذي يُعتبر مركز قيادة الجيش ومنظمات الاستخبارات ومكان انعقاد اجتماعات الحكومة الأمنية المصغرة، بمنأى عن الهجمات، حيث أصاب أحد الصواريخ منطقةً قريبةً منه، مما ألحق أضرارًا بالقطاع اللوجستي المرتبط به.
إلى جانب ذلك، استهدفت الهجمات مراكز الاتصالات العسكرية والمنشآت المرتبطة بجهاز الموساد والاستخبارات العسكرية “أمان”. وعلى الرغم من مزاعم الجيش الإسرائيلي بعدم إسقاط أي طائرة مقاتلة وبقاء أنظمته الدفاعية قيد التشغيل، إلا أن مجرد حدوث هذه الاختراقات والدمار، أسقط القناع عن وهم “الأمن المطلق” الذي طالما تباهت به المؤسسة العسكرية الصهيونية.
كما كان لتدمير مبنى معهد “وايزمان” البحثي أثرٌ استراتيجي بالغ على البنية العلمية والتكنولوجية الدفاعية في تل أبيب، إذ أن هذا الهجوم قد يُعطّل مسار تطوير الأسلحة المتقدمة، ويضع أمن الکيان الصهيوني على المدى البعيد في مواجهة تحديات خطيرة.
وبذلك، أثبتت هذه الحرب أن الخسائر العسكرية للکيان الصهيوني لا تقتصر على الأضرار المادية المباشرة، بل تشمل أيضًا انهيار قوة الردع، وانكشاف الثغرات الدفاعية، والاحتياج الملح لإعادة بناء واسعة للبنية العسكرية. إنها خسائر استراتيجية طويلة الأمد، يُجبر الکيان على دفع ثمنها الباهظ في قادم الأيام.
الخسائر الاقتصادية
لم تكن الحرب بين إيران والکيان الصهيوني مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل أضحت ميدانًا واسعًا كشف عن هشاشة البنية الاقتصادية لهذا الكيان. فما ظنّه قادة تل أبيب صراعًا محدودًا لتحقيق الردع، تحوّل إلى أزمة شاملة عصفت بأسس الاقتصاد الصهيوني، ووضعت قوته المالية والتكنولوجية موضع شك كبير.
بحسب تقرير نشرته صحيفة “نيو عرب” واستند إلى مصادر اقتصادية إسرائيلية، فإن الخسائر الاقتصادية المباشرة التي تكبّدها الکيان الصهيوني نتيجة هذه الحرب، تجاوزت 12 مليار دولار. وشملت هذه التكاليف نفقات عسكرية، وتعويضات عن الأضرار الناجمة عن الهجمات الصاروخية الإيرانية، ومبالغ ضخمة لإعادة إعمار البنى التحتية المتضررة، فضلًا عن التكلفة الاقتصادية الناتجة عن تعطيل الأنشطة التجارية على نطاق واسع. وحذّر بعض خبراء الاقتصاد الصهاينة من أن استمرار هذا الصراع كان سيؤدي، بلا شك، إلى انهيار كامل للاقتصاد الإسرائيلي.
وفي إطار هذه الخسائر، أكدت وزارة المالية في الکيان الصهيوني أن الأضرار الاقتصادية بلغت ما يعادل 22 مليار شيكل (حوالي 6.46 مليار دولار)، بينما قدّم الجيش طلبًا للحصول على ميزانية إضافية بقيمة 40 مليار شيكل (نحو 11.7 مليار دولار) لتعويض خسائره العسكرية واستعادة كفاءة أنظمته الدفاعية. هذا، في وقتٍ لم تكتمل فيه بعد تقديرات الأضرار التي لحقت بالممتلكات السكنية والتجارية، والتي تراوحت بين 294 و440 مليون دولار.
كما أوضح تقرير صادر عن اللجنة المالية في الكنيست، أن حوالي 40 ألف طلب تعويض تم تقديمه من قِبل المتضررين، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 50 ألف طلب. علاوةً على ذلك، تضررت أكثر من 3700 مركبة، ما دفع أصحابها إلى المطالبة بتعويضات عن الخسائر التي لحقت بهم.
وفي تقرير نشره موقع “روتر” نقلًا عن وزارة المالية، وُصف حجم الخسائر التي تكبّدها الکيان الصهيوني في هذه الحرب، بأنها تضاعفت مقارنةً بالخسائر المادية التي لحقت به خلال حربه التي استمرت 21 شهرًا مع غزة.
ومن التداعيات التي لم يكن الکيان الصهيوني مستعدًا لها، ارتفاع عجز الميزانية إلى 6% وتراجع معدل النمو الاقتصادي بما لا يقل عن 0.2%. ووفقًا لمصدر في وزارة المالية الإسرائيلية صرّح لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن الکيان قد يضطر إلى طلب مساعدات مالية أو ضمانات قروض من الولايات المتحدة لتغطية تكاليف الحرب وتلبية احتياجاته الدفاعية العاجلة.
وفي خضم هذه الأزمة، تلقّى سوق المال الإسرائيلي ضربةً قاسيةً؛ إذ سجّل مؤشر بورصة تل أبيب انخفاضًا حادًا بنسبة 18%، ما أدى إلى خروج استثمارات أجنبية بقيمة 6.4 مليار دولار. كما شهدت الشركات الإسرائيلية العاملة في قطاع التكنولوجيا مثل شركتي “شيك بوينت” (Check Point) و“ويكس” (Wix)، انخفاضًا في قيمة أسهمها تراوح بين 12% و25%.
شلل في التجارة والسياحة
تعرض ميناء حيفا، أحد الشرايين الاقتصادية الرئيسة للکيان الصهيوني، لضربة موجعة نتيجة الهجمات الصاروخية الإيرانية، ما أدى إلى توقّف الأنشطة المينائية بالكامل لمدة 10 أيام على الأقل. وهذا التعطيل لم يؤثر فقط على حركة الصادرات والواردات، بل ألقى بظلاله الثقيلة على قطاعات حيوية كالتكنولوجيا والصناعات الدوائية.
أما قطاع السياحة، الذي يُسهم بنسبة 7% من الناتج المحلي الإجمالي للکيان الصهيوني، فقد أُصيب بشلل تام. إذ أُلغي أكثر من 80 ألف رحلة جوية، وأعلنت شركات طيران دولية كبرى مثل لوفتهانزا وطيران الإمارات تعليق رحلاتها إلى تل أبيب. وقدّرت الخسائر في هذا القطاع بنحو 1.2 مليار دولار، ما أدّى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية.
وأشارت تحليلات صادرة عن معهد RAND إلى أنه إذا استمر هذا الصراع، فإن الکيان الصهيوني سيواجه ركودًا اقتصاديًا قد يستمر لعامين كاملين، مع ارتفاع معدلات البطالة إلى ما يزيد عن 9%. كما أن إعادة إعمار ما دُمّر خلال الحرب ستتطلب ميزانيةً تُقدّر بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم لم يسبق تسجيله في أي من الحروب السابقة.
لقد كشفت الحرب مع إيران عن ضعف الکيان الصهيوني ليس فقط على الصعيد العسكري، بل أيضًا على صعيده الاقتصادي، الذي طالما افتخر بقوته ومتانته. واليوم، يجد هذا الكيان نفسه في مواجهة أزمة بنيوية عميقة، لا تستطيع أي تقنية دفاعية، مهما بلغت تطورها، أن تقيه من تداعياتها. إن الحرب، التي كانت تُروّج كوسيلة لتعزيز الردع، تحوّلت إلى كارثة اقتصادية تهدد مستقبل الکيان ذاته.
الهزائم السياسية
لم تكن الحرب مع إيران مجرد صراع عسكري أو اقتصادي مرير بالنسبة للکيان الصهيوني، بل امتدت آثارها لتُخلِّف جرحًا عميقًا في المشهد السياسي والدبلوماسي لهذا الكيان. ورغم ما روّجت له قيادات تل أبيب من دعايات حول “نجاحها العسكري”، جاءت الحقائق الميدانية وردود الفعل الدولية لتُبرز صورةً مغايرةً تمامًا، كاشفةً عن تراجع كبير في مكانة هذا الكيان على مستوى الرأي العام العالمي والمؤسسات السياسية الدولية.
على مستوى منطقة غرب آسيا، كانت ردود الفعل صارمةً وواضحةً. فقد أدانت دول المنطقة، من الخليج الفارسي إلى شمال إفريقيا، الهجمات الصهيونية، وأكدت دعمها لحق الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الدفاع المشروع عن نفسها. واندلعت موجات من التظاهرات الشعبية في البلدان العربية والإسلامية، من الرباط إلى المنامة، حيث خرجت الجماهير للتعبير عن رفضها لعدوان تل أبيب، في مشهدٍ يعكس تآكل القوة الناعمة لهذا الكيان في المنطقة.
هذه التفاعلات الشعبية والسياسية تحمل دلالات عميقة؛ إذ إنها تنذر بتعطيل طويل الأمد لعملية التطبيع التي سعى الكيان الصهيوني لتوسيعها مع الدول العربية. فبدلًا من تعزيز علاقاته الإقليمية، وجد نفسه أمام موجة غضب شعبي تُهدد بتحويل مسار التطبيع إلى طريق مسدود.
في أوروبا، تصاعدت أصوات الاحتجاج ضد سياسات الكيان الصهيوني. ففي عواصم كبرى مثل لندن، باريس، برلين، وروما، نظمت تجمعات احتجاجية واسعة، حيث طالب المحتجون بوقف العدوان الإسرائيلي وأدانوا سياسات تل أبيب التوسعية. ولم تكن الولايات المتحدة بمنأى عن هذه الاحتجاجات؛ فقد خرج الآلاف إلى الشوارع في مدن كبرى، مطالبين بإنهاء الحرب. وكانت المفاجأة الكبرى انضمام جماعات يهودية مهاجرة إلى هذه الاحتجاجات، حيث أصدرت بيانات تُدين الهجمات الصهيونية وتدعو إلى إنهاء الحرب فورًا.
ولم تقتصر الضغوط على الرأي العام، بل امتدت إلى المؤسسات الدبلوماسية العالمية. فقد انتقدت جهات دولية بارزة، بما فيها الاتحاد الأوروبي، السياسات العدوانية للكيان الصهيوني. وعلى إثر ذلك، وضعت بروكسل مقترحًا لفرض حزمة عقوبات جديدة على تل أبيب، بهدف كبح جماحها العسكري. ومن المتوقع أن يُصادق الاتحاد الأوروبي على هذه العقوبات إذا استمرت حكومة نتنياهو في إشعال فتيل الحرب.
هذه التحركات الدولية تُبرز حجم العزلة السياسية التي بات الكيان الصهيوني يعاني منها، حيث تحولت الحرب من أداة لتعزيز موقعه الدبلوماسي، إلى سبب رئيس لتراجع مكانته على الساحة الدولية.
إن هذه السلسلة المتلاحقة من الضغوط الشعبية والدبلوماسية، تُظهر أن الحرب مع إيران لم تكن سوى هزيمة سياسية مدوية للكيان الصهيوني. فما كان يُخطط له كخطوة لتعزيز نفوذه السياسي، انتهى بتراجعٍ واضحٍ في موقعه الدبلوماسي، ودفعه إلى عزلة سياسية خانقة. ولم يعد هذا الواقع المؤلم خافيًا حتى على حلفائه التقليديين، الذين باتوا غير قادرين على تجاهل ما آل إليه وضع تل أبيب.
الهزائم الاجتماعية
على الرغم من قصر المدة الزمنية للحرب بين إيران والکيان الصهيوني، إلا أن آثارها الاجتماعية كانت ثقيلة الوطأة وعميقة الجذور في المجتمع الصهيوني. ورغم مزاعم قادة تل أبيب بإدارة ناجحة للأزمة، جاءت ردود أفعال المستوطنين لتكشف عن العكس، حيث أوضحت أن هذا الصراع أدّى إلى زعزعة الكيان الداخلي لـ "إسرائيل" وتفاقم الانقسامات الاجتماعية فيه.
فقد اضطر ملايين المستوطنين الصهاينة لقضاء ساعات طويلة يوميًا في الملاجئ، وهو أمر متكرر مرير يرافقه توتر نفسي بالغ التأثير. هذه التجربة اليومية المضنية خلّفت آثارًا نفسيةً عميقةً على المجتمع، وأفضت إلى اتساع الهوة بين الشعب والسلطة. ولم تكن معاناة المواطنين مقتصرةً على الإحساس بالخوف، بل تضاعفت بسبب انعدام الثقة في قدرة الحكومة على إدارة الأزمة، ما دفع العديد من المواطنين إلى اعتبار حكومة نتنياهو المسؤول الرئيس عن هذا الوضع المتأزم.
أظهرت نتائج استطلاع رأي أُجري عبر معهد الديمقراطية الإسرائيلي (IDI) عقب انتهاء الحرب، أرقامًا تعكس بوضوح حجم الفجوة الاجتماعية المتنامية. ووفقًا للنتائج، فإن 38% فقط من المستوطنين عبّروا عن ثقتهم بإدارة الحكومة للحرب، وهي نسبة متدنية بشكل ملحوظ مقارنةً بـ 72% في فترة ما قبل الصراع. هذا التراجع الحاد يُظهر اتساع حالة السخط الشعبي تجاه القيادة السياسية، وخاصةً نحو قرارات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وإدارته للأزمة.
وفي السياق ذاته، أقرّ مسؤولون سابقون في حكومة تل أبيب بأن كثافة الهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة الإيرانية قد قلبت المعادلات الأمنية رأسًا على عقب، وأزاحت الکيان الصهيوني عن موقع التفوق العسكري الذي طالما استند إليه، حتى إن بعضهم ذهب إلى القول بأن الحرب قد مهّدت لمستقبل قاتم يلوح في أفق الأراضي المحتلة.
وأما استطلاع آخر أجرته صحيفة معاريف، فقد أظهر بوضوح تشاؤم الرأي العام الصهيوني حيال نتائج هذه الحرب؛ إذ إن ثلثي المستوطنين تقريبًا يعتقدون أن الکيان الصهيوني قد مُني بالهزيمة في مواجهة إيران. كما بثّت قناة كان 11 الصهيونية تقريرًا أوضح أن 55% من المستوطنين لا يزالون يشعرون بتهديدٍ دائم مصدره إيران، وهو ما يشير إلى تحول إحساسهم بانعدام الأمن إلى حالة نفسية مستدامة في أذهانهم.
لم تثمر هذه الحرب عن إعادة بناء قدرة الردع للکيان الصهيوني، كما كان يأمل، بل على العكس من ذلك، أوقعت المجتمع العبري في أزمة اجتماعية عميقة تتمثل في تصدعات واسعة في بنيته الداخلية، واستنزاف نفسي مرهق، وانحدار ملحوظ في شرعية النظام السياسي. وهذا كله يشي بأن التبعات الاجتماعية لهذه الحرب لن تقتصر على الوقت الراهن، بل قد تمتد لأمد طويل بتكاليف باهظة تفوق بكثير تلك التي أفرزتها الخسائر العسكرية المباشرة.