الوقت - في تطور وصفته الصحافة الفرنسية بـ"التحول المفاجئ"، فتحت الجزائر صفحة جديدة في رؤيتها الاستراتيجية لتطوير بنيتها التحتية البحرية، بإعلانها الفعلي التخلي عن مشروع ميناء "الحمدانية" الضخم في شرشال، الذي كان سيقام بشراكة مع الصين، لصالح شراكة مرتقبة مع مجموعة CMA CGM الفرنسية، أحد عمالقة الشحن البحري في العالم.
القرار لم يكن عادياً، ليس فقط لأنه طوى مشروعاً استراتيجياً كان ضمن المخطط التنموي الطموح للجزائر منذ عام 2015، بل لأنه أعاد تشكيل الاصطفاف الاقتصادي للجزائر بين محوري "الشرق الصيني" و"الغرب الأوروبي"، وجعل من مجموعة تجارية فرنسية لاعباً محتملاً في إعادة هيكلة مستقبل الموانئ الجزائرية، في وقت تمر فيه العلاقات بين الجزائر وباريس بأدق حالاتها منذ سنوات.
من الحلم إلى الانسحاب: قصة "الحمدانية" منذ البداية
في العام 2015، وخلال سنوات ما قبل الحراك الشعبي، كانت الجزائر تبحث عن مشاريع عملاقة تحاكي طموحاتها الجيو-اقتصادية. فتم الإعلان عن مشروع ميناء "الحمدانية" في شرشال، بمواصفات عالمية، وعلى مساحة تناهز 3,100 هكتار، تتضمن ميناء بعمق 20 متراً، قادراً على استقبال أضخم سفن العالم، ومنطقة لوجستية متصلة بشبكات النقل البرية والسككية، تمتد إلى عمق البلاد وحتى الطريق العابر للصحراء.
المشروع جاء ثمرة اتفاق بين الجزائر والصين، عبر شركتي "تشاينا ستايت كونستركشن" و"تشاينا هاربور"، وبتمويل جزئي من بنك التصدير والاستيراد الصيني (Exim Bank)، مع تأسيس شركة تسيير مشتركة "SPA Hamdania" بنسبة 51% للجانب الجزائري، و49% للصيني. وُصف المشروع آنذاك بأنه بوابة الجزائر إلى العصر اللوجستي الحديث، وركيزة لموقعها كحلقة وصل بين أوروبا وإفريقيا وآسيا.
لكن خلال السنوات التي تلت، لم يُسجل أي تقدم يُذكر. ظلت الرسومات والتصريحات طافية فوق الواقع، بينما تعثرت المفاوضات، وتصاعدت التكاليف، حتى أشارت تقديرات إلى أن الكلفة الإجمالية قد تتجاوز 5 مليارات دولار. وفي مارس/آذار 2024، سربت تقارير متخصصة أن المشروع ألغي "فعلياً" بسبب صعوبات تمويلية وأخرى تتعلق بالجدوى الاقتصادية على ضوء التحولات في سوق الشحن العالمي.
"طريق الحرير" في مهب التحول
أهمية ميناء الحمدانية لم تكن محصورة في حجمه، بل في رمزيته. فقد أدرجه بعض الخبراء ضمن خارطة "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، والتي تهدف إلى إنشاء شبكة بنية تحتية بحرية وبرية تربط الصين بأوروبا عبر آسيا وإفريقيا. وكانت الجزائر مرشحة لتكون نقطة محورية في هذا المشروع، وهو ما منح "الحمدانية" صفة استراتيجية تتجاوز الاقتصاد إلى الجغرافيا السياسية.
لكن التخلي المفاجئ عن المشروع جاء كرسالة ضمنية: الجزائر لم تعد تراهن على شعارات التحالفات الكبرى بقدر ما تراهن على الشراكات البراغماتية القابلة للتحقق. فالعلاقة مع الصين وإن بقيت قوية من حيث الاستثمارات، إلا أن الأولوية اليوم باتت لتطوير واقعي ومباشر للموانئ القائمة، لا لبناء "حلم" مؤجل.
لماذا CMA CGM؟
التحول نحو الشراكة مع المجموعة الفرنسية CMA CGM لم يكن وليد اللحظة. الشركة، التي أسسها رجل الأعمال اللبناني ـ الفرنسي رودولف سعادة، تُعد ثالث أكبر شركة في العالم في مجال نقل الحاويات، وتملك حضورًا تاريخيًا في الجزائر يمتد لأربعة عقود، تنشط خلالها في تسعة موانئ جزائرية، وتستحوذ على الحصة الأكبر من سوق الشحن البحري في البلاد.
رغم توتر العلاقات السياسية مع باريس، استقبل الرئيس عبد المجيد تبون قبل أيام سعادة في قصر الرئاسة، في خطوة لافتة. ورغم عدم إعلان رسمي عن الاتفاق، إلا أن مصادر صحيفة "لوبينيون" الفرنسية أكدت أن "كل شيء نوقش"، وأن CMA CGM تتطلع إلى توقيع اتفاق نهائي بحلول سبتمبر/أيلول المقبل.
الشركة أعربت عن استعدادها لضخ مئات الملايين من اليوروهات لتحديث الموانئ الجزائرية، ببناء محطات حاويات حديثة، وتحسين أنظمة التسيير، وربما التعاقد على إدارة أحد الأرصفة الكبرى. وتهدف هذه الشراكة إلى تقليص الازدحام في موانئ مثل الجزائر العاصمة ووهران، التي تعاني من طوابير انتظار قد تمتد لأيام، خاصة بعد انخفاض حركة العبور في قناة السويس وتحويل السفن مساراتها نحو موانئ بديلة.
البحر المتوسط... وسباق الموانئ
في خضم هذا التحول، تتسابق دول المغرب العربي لاستثمار موقعها الجغرافي كمنافذ بديلة للتجارة العالمية، خاصة بعد الأزمات المتكررة في قناة السويس ومضيق باب المندب. وتحاول الجزائر اليوم حجز موقع في هذا السباق، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي على حوض المتوسط، ومن بنيتها القابلة للتطوير.
وفي هذا الإطار، تخطط الجزائر لتعميق أرصفة الموانئ الحالية إلى 17 مترًا، وبناء أرصفة بحرية جديدة، وإطلاق خطوط مباشرة نحو مرسيليا، وهران، وعنابة، تديرها شركة "لا ميريديونيال" الفرنسية، التابعة لـCMA CGM، وهو ما يعزز الربط المباشر بين شمال المتوسط والساحل الإفريقي.
كما تعمل الحكومة على مشاريع أخرى مثل توسعة ميناء سكيكدة (للمحروقات)، وبناء رصيف جديد لتصدير الفوسفات في عنابة، لتأمين خط صادرات بري ـ بحري متكامل نحو إفريقيا جنوب الصحراء، رغم التحديات الأمنية في دول الساحل.
قراءة في الخلفيات... واقعية سياسية أم تغيير في التحالفات؟
التخلي عن مشروع صيني لصالح شريك فرنسي في ظل أزمة سياسية مع باريس لا يمكن فصله عن حسابات أبعد من الاقتصاد. فالأمر يتعلق بتوازن دقيق تحاول الجزائر ممارسته بين علاقاتها التقليدية مع الشرق، وتواصلها الاقتصادي مع الغرب الأوروبي.
في نهاية المطاف، يبدو أن الجزائر اختارت ما تسميه بعض التحليلات بـ"البراغماتية السيادية"، حيث المعيار لم يعد في شعارات المشاريع، بل في مدى قابليتها للتنفيذ، وقدرتها على التكيف مع واقع الاقتصاد العالمي المتغير. إنها سياسة تقوم على الانتقال من "رؤية المشاريع العملاقة على الورق" إلى "مشاريع تشغيلية وفعالة على الأرض".
بإلغاء ميناء الحمدانية، لم تخسر الجزائر مشروعًا بقدر ما ربحت فرصة لإعادة صياغة أولوياتها اللوجستية. القرار يحمل في طياته رؤية أكثر واقعية لمستقبل البلاد البحري، تتجاوز الرهانات الجيوسياسية، نحو بناء قدرات تشغيلية فاعلة، في موانئ تشتغل فعلاً، وتحقق مردودًا ملموسًا. بين "طريق الحرير" و"المرافئ المتوسطية"، اختارت الجزائر أن تشق طريقها الخاص... بطريقتها.