الوقت - في خطوة أثارت زوبعة سياسية وأخلاقية في المغرب، وجّه "المعهد المغربي لحقوق الإنسان" بمدينة أكادير، وهو جمعية أهلية، رسالة إلى رئيس المجلس البلدي للمدينة، عزيز أخنوش، يقترح فيها إطلاق أسماء شخصيات يهودية مغربية على بعض الشوارع والمرافق العمومية.
وبينما قد يبدو المقترح، في ظاهره، تعبيراً عن الاعتراف بالتنوع الثقافي المغربي، فقد اعتبره العديد من الفاعلين الحقوقيين والسياسيين خطوة تطبيعية خطيرة، تضرب في الصميم رمزية الهوية الوطنية، وتكشف عن اختراق متزايد للخطاب الصهيوني في الفضاء العام المغربي، تحت غطاء "التسامح" و"التعددية".
الرسالة المؤرخة في الـ 21 من مايو 2025، والتي صيغت باللغة الفرنسية، في دلالة رمزية لا تخلو من الأبعاد الإيديولوجية، عبّرت عن ما سماه المعهد “غياباً غير مبرر” للأسماء اليهودية في الفضاء العمومي بمدينة أكادير، رغم الاعتراف الدستوري بالمكوّن العبري ضمن الهوية المغربية، وقد أرفق المعهد مقترحاته بأسماء محددة، شملت أورنا بعيز، ونيطا القايم، وسيمون ليفي، والحاخام خليفى بن ملكا، مطالباً بتغيير أسماء شوارع تحمل رموزاً وطنية كعلال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، وهما من أبرز وجوه النضال المغربي ضد الاستعمار، ومن مؤسسي الفكر الوطني العروبي.
صدمة النخبة والرأي العام: رموز الوطن في مهب "التطبيع الرمزي"
من اللحظة الأولى، لم تمر الرسالة مرور الكرام، فقد قوبلت بموجة من الاستنكار العارم، اعتبرها كثيرون “تطبيعاً ثقافياً مقنّعاً” ومؤشراً على تصاعد ما وصفوه بـ"النزعة التصهينية" وسط بعض مكوّنات الحركة الأمازيغية، وخاصة تلك التي تعادي الامتداد العربي للمغرب، وتوظف التعدد الثقافي لتبرير قطيعة مصطنعة مع الذاكرة الوطنية.
عادل تشيكيطو، رئيس "العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان"، كان من أوائل من عبّر عن رفضه الشديد لهذه المبادرة، واصفاً إياها بأنها طمس لذاكرة الوطن باسم “التنوع المتصهين”، متسائلاً عن جدوى إزالة أسماء من حجم علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد، لمصلحة أسماء لا تحظى بأي إجماع وطني أو رمزية شعبية، كما اتهم تشيكيطو رئيس المعهد بأنه من أبرز وجوه التطبيع، مشيراً إلى زياراته المتكررة لكيان الاحتلال، وابتساماته أمام كاميرات المؤسسات الصهيونية، متسائلاً بمرارة عن الدوافع الحقيقية لهذه المبادرات "الثقافية".
من التعددية إلى التصفية الرمزية
المفارقة أن الدعوة، التي قُدمت باسم تعزيز قيم العيش المشترك، انتهت إلى اتهامات بمحاولة “محو الذاكرة الوطنية”، واستبدالها برموز جديدة لا تمت للوجدان الشعبي المغربي بصلة، كيف يمكن لمدينة كأكادير، المتشبثة بجذورها النضالية، أن تقبل بإزالة اسم علال الفاسي، أحد آباء الوطنية المغربية، من شارع يحمل تاريخه وكفاحه، أو تغيير اسم عبد الرحيم بوعبيد، المفكر والسياسي العروبي البارز، باسم حاخام لا يعرفه سوى عدد محدود من سكان المدينة؟
جمال العسري، الأمين العام لـ"الحزب الاشتراكي الموحد"، اعتبر أن الأمر تجاوز حدود التطبيع إلى محاولة منهجية لـ"محو الذاكرة الوطنية"، مؤكداً أن مناهضة التطبيع باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى واجباً وطنياً لحماية هوية البلاد من الاختراق الصهيوني الناعم.
ردود من قلب الحركات البيئية والمدنية
سليمة بلمقدم، رئيسة "حركة مغرب البيئة 2050"، وصفت المبادرة بأنها "طلب للتصهين علناً من مؤسسة مغربية"، وذهبت أبعد من ذلك حين وصفت هذه الخطوة بأنها "من بركات التطبيع مع النازيين"، مشيرة إلى ما وصفته بمحاولات لطمس الهوية المغربية، وتهجينها بمرجعيات دخيلة على تاريخها الحقيقي.
أما على مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تحوّل الجدل إلى موجة رفض عارمة، رافضة أي مساس بأسماء الشوارع التي ترتبط في الوجدان المغربي بالكفاح من أجل الاستقلال، معتبرين أن تعويضها بأسماء لا تحظى بالشرعية التاريخية ولا بالإجماع المجتمعي هو انتهاك صارخ لذاكرة الوطن.
التطبيع الزاحف ومأزق الهوية
هذا الجدل لم يأتِ من فراغ، فهو حلقة جديدة في سلسلة محاولات "التطبيع الناعم" التي تجري تحت لافتات ثقافية وحقوقية، بدأت منذ توقيع اتفاقيات التطبيع الثلاثي نهاية عام 2020، لكن التطبيع هذه المرة لا يأتي من بوابة السياسة الخارجية، بل يتسلل إلى الشوارع، واللافتات، وأسماء الأحياء، بما يجعل خطره أعمق وأبعد مدى.
في سياق كهذا، تبدو الدعوة إلى "إعادة الاعتبار" للذاكرة اليهودية وكأنها محاولة لتبييض صفحة الاحتلال، وتقديم وجوهه الناعمة في قالب "التسامح والتنوع"، في وقت تتعرض فيه فلسطين لأبشع أشكال الإبادة الجماعية، ما يجعل الحديث عن "التعايش" أقرب إلى السخرية المرة.
سؤال السيادة والقرار
ولا يمكن تجاهل أن صاحب الرسالة، عزيز أخنوش، يشغل منصبين بالغَي الحساسية: رئيس الحكومة ورئيس المجلس البلدي لأكادير، وهذه المزاوجة بين السلطتين تجعل من موقفه محط أنظار الرأي العام، وخاصة أن العديد من المتابعين يرون في سكوته عن هذه الخطوة نوعاً من التواطؤ الصامت مع أجندة التطبيع، سواء من باب التجاهل أو القبول الضمني.
ما بين طمس الرموز الوطنية، وتبييض أسماء تفتقد للشرعية التاريخية، يجد المغرب نفسه أمام مفترق طرق حقيقي. فالمعركة لم تعد فقط على حدود السياسة، بل وصلت إلى قلب الشارع، إلى أسماء الأحياء، إلى من يحق له أن يُخلد في ذاكرة الوطن، ومن يُراد محوه باسم "الانفتاح"، والمفارقة أن الانفتاح الحقيقي لا يكون عبر محو الذات، بل بترسيخها في وجه كل محاولات التغريب، أو التهويد، أو المسخ الرمزي للهوية.
إن ما يجري في أكادير اليوم ليس مجرد جدل بلدي حول أسماء شوارع، بل معركة حقيقية على الذاكرة والهوية والسيادة الرمزية، ومثلما قال كثير من المغاربة الغاضبين: "أغادير ليست للبيع، وعلال الفاسي وبوعبيد ليسا عملتين يُستبدلان على رصيف التطبيع".