الوقت - في حادثة خطيرة تُضاف إلى سجل الاحتلال الإسرائيلي الحافل بانتهاكات القانون الدولي، أقدمت قوات الاحتلال، يوم الأربعاء 21 مايو/أيار 2025، على إطلاق الرصاص الحي باتجاه وفد دبلوماسي رفيع يضم سفراء وقناصل من أكثر من ثلاثين دولة، خلال زيارة ميدانية إلى مدخل مخيم جنين شمال الضفة الغربية المحتلة.
الهجوم الذي لم يسفر عن إصابات جسدية، كشف بوضوح استخفاف "إسرائيل" بالمجتمع الدولي، وفضح ما بات يُنظر إليه كممارسة ممنهجة تنتهك الأعراف الدبلوماسية والإنسانية، في وقت تتصاعد فيه الإدانات الدولية للعدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية.
رصاص الاحتلال لا يفرّق بين مدنيين ودبلوماسيين
لم تكن زيارة الوفد الدولي إلى جنين إلا محاولة لتقصي الحقائق عن الوضع الميداني والكارثة الإنسانية التي يعاني منها سكان المخيم، بعد أشهر من القصف الإسرائيلي والتدمير الشامل للبنى التحتية وبيوت المدنيين. لكن الرد الإسرائيلي جاء بالرصاص.
أظهرت لقطات مصوّرة حالة من الذعر في صفوف أعضاء الوفد، بينهم سفراء من دول عربية وغربية، فرّوا مسرعين مع بدء إطلاق النار المباشر باتجاههم، ما يعكس درجة الخطورة التي تعرضوا لها رغم تمتّعهم بالحصانة الدبلوماسية المفترضة.
الواقعة أثارت موجة غضب عارمة في الأوساط السياسية والدبلوماسية العالمية، ودفعت العديد من العواصم إلى استدعاء سفراء الاحتلال، للمطالبة بتوضيحات عاجلة ومحاسبة المسؤولين.
الجيش الإسرائيلي، وكعادته، سارع إلى تبرير الحادث بزعم أن الوفد انحرف عن المسار المخصص له، مدعياً أن إطلاق النار كان تحذيرياً في الهواء، وهو ما يتناقض تماماً مع شهادات الحضور والتسجيلات المصوَّرة التي أظهرت حالة الهلع نتيجة إطلاق نار مباشر وكثيف، ولعلّ التبرير الإسرائيلي الفجّ يكشف مرة أخرى مدى الاستخفاف بالاتفاقيات الدولية، ولا سيما اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 التي تضمن حرمة الدبلوماسيين وتمنع تعريضهم لأي خطر.
الهجوم قوبل بتنديد واسع من دول عربية وغربية، أبرزها مصر والأردن وتركيا وكندا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وأجمعت التصريحات الرسمية على أن ما جرى خرق صارخ للقانون الدولي والدبلوماسي، وتهديد مباشر للسلم العالمي.
فرنسا استدعت السفير الإسرائيلي، ووصفت الحادث بـ"التهديد غير المقبول"، أما إسبانيا، فقد نددت بشدة، وطالبت برد مشترك مع الدول المتضررة، بدورها، كندا عبّرت عن "قلق بالغ"، فيما اعتبرت ألمانيا أن الحادث تم دون مبرر، مؤكدة أن وفدها كان منسقاً بالكامل مع الجيش الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية.
من جهتها، أدانت الأمم المتحدة الواقعة، واعتبرت إطلاق النار على دبلوماسيين، بينهم موظفون أمميون، تصرفاً لا يمكن تبريره، داعية إلى فتح تحقيق شامل ومحاسبة الجناة.
الحادثة الدبلوماسية جاءت في توقيت حرج بالنسبة لـ"إسرائيل"، التي تواجه تراجعاً غير مسبوق في دعم حلفائها الأوروبيين، فقد كشفت مجلة دير شبيغل الألمانية أن كثيراً من الدول الأوروبية، حتى الحليفة تقليدياً لتل أبيب، باتت تُظهر نفاد صبرها إزاء السياسات العدوانية الإسرائيلية، وخاصة في غزة والضفة.
ففي اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الأخير، دعت 17 دولة من أصل 27 إلى إعادة النظر في الاتفاقيات الاقتصادية مع "إسرائيل"، في خطوة لم تكن لتحدث لولا تصاعد الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وتهديدها للسلم الدولي.
جنين وغزة: وجهان لعدوان واحد
لا يمكن عزل واقعة إطلاق النار على الوفد الدبلوماسي عن العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، حيث ارتفعت حصيلة الشهداء إلى أكثر من 85 فلسطينياً في غارات متواصلة شنتها الطائرات الحربية ليلة الثلاثاء وفجر الأربعاء، وسط انهيار شبه كامل للبنى التحتية ونزوح مئات الآلاف.
ورغم الإعلان الإسرائيلي عن السماح بدخول مساعدات إنسانية، أكدت تقارير الأمم المتحدة أن عدد الشاحنات المسموح لها بالدخول لا يتجاوز العشرات، وهو رقم بعيد جداً عن الحاجة اليومية التي تتطلب مئات الشاحنات لتلبية الحد الأدنى من الاحتياجات.
واعتبرت منظمة "أطباء بلا حدود" أن "إسرائيل" تستخدم ملف المساعدات كأداة دعائية لتحسين صورتها، بينما تواصل فرض حصار شامل على القطاع، يمنع حتى دخول المواد الأساسية كالغذاء والدواء والخيام.
ما جرى في جنين ليس مجرد خطأ ميداني، بل رسالة إسرائيلية واضحة للعالم مفادها بأن لا قوانين تُلزمها، ولا أعراف دبلوماسية تُرهبها، والاعتداء على وفد دبلوماسي رفيع، جاء في سياق عدواني شامل يستهدف المدنيين والصحفيين والمؤسسات الطبية والإنسانية، ويتحدى الإرادة الدولية برمّتها.
في المقابل، يبدو أن النفوذ الإسرائيلي التقليدي في العواصم الأوروبية بات يتآكل تدريجياً، ومع ازدياد الأصوات الغربية المنادية بوقف الحرب، وظهور انقسام داخلي غير مسبوق في المجتمع الإسرائيلي نفسه، يجد الاحتلال نفسه في موقع غير مريح على الساحة الدولية.
إن رصاص جنود الاحتلال في جنين لم يصب الدبلوماسيين جسدياً، لكنه أصاب الهيبة الإسرائيلية في مقتل، وأعاد تعريفها عالمياً كدولة مارقة تمارس الإرهاب الرسمي بلا خجل، وإذا لم تتبع الإدانات الدولية إجراءات ملموسة، فإن صمت العالم سيُقرأ كضوء أخضر لمزيد من الجرائم.