الوقت- في ظل الحرب الإجرامية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، لم تقتصر الانتهاكات على القصف والتجويع والتدمير، بل امتدت إلى الخطاب السياسي الرسمي الذي بدأ يعبّر صراحةً عن نوايا الإبادة الجماعية وتطهير الأرض من سكانها الفلسطينيين، فقد صدرت مؤخرًا تصريحات عن عدد من كبار وزراء حكومة الاحتلال، تنضح بالكراهية، وتحمل مضامين خطيرة قد ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، وتكشف حجم الحقد والوحشية الكامنة خلف آلة القتل الصهيونية.
دعوات صريحة للتجويع واستهداف المدنيين
في مقدمة هذه التصريحات تأتي كلمات أميحاي إلياهو، وزير في حكومة الاحتلال وعضو في حزب "عوتسما يهوديت" (القوة اليهودية)، أحد الأحزاب الفاشية المتطرفة في الكنيست، في مقابلة له مع القناة السابعة الإسرائيلية، أعلن إلياهو بصراحة أن "لا مانع من استهداف مخازن الوقود والغذاء في قطاع غزة"، مضيفًا إن "الغزيين يجب أن يجوعوا"، هذا التصريح يمثل اعترافًا رسميًا بممارسة سلاح التجويع كسلاح حرب ضد المدنيين، وهي جريمة منصوص عليها صراحة في القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف.
إن دعوة وزير في الحكومة إلى تجويع أكثر من مليوني إنسان، معظمهم من النساء والأطفال، في منطقة محاصرة منذ أكثر من 18 عامًا، تمثل ذروة الانحطاط الأخلاقي والانفصال عن المعايير الإنسانية، ويأتي هذا التصريح في وقت يواجه فيه سكان غزة مجاعة حقيقية، إذ وثّقت منظمات أممية مثل برنامج الأغذية العالمي و"أوكسفام" و"أطباء بلا حدود" انتشار سوء التغذية الحاد، وارتفاع معدلات وفيات الأطفال، في ظل حصار شامل وغياب المساعدات.
اسموتريتش وتكرار نغمة التهجير القسري
من جهة أخرى، أطلق بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي، تصريحات أكثر تطرفًا لا تقل خطورة، ففي حديث للقناة 12 الإسرائيلية، أكد أن "غزة سيتم تدميرها بالكامل"، وأن هناك "تركيزًا للسكان في مناطق مثل محور موراگ وجنوب القطاع تمهيدًا لترحيلهم"، هذه الكلمات تعكس مشروعًا واضحًا للتهجير القسري، وهو ما يعني تكرار نكبة 1948، ولكن هذه المرة بشكل علني ورسمي.
سموتريتش، وهو أحد أركان اليمين الديني المتطرف في الکیان الإسرائيلي، يروج منذ سنوات لمشروع "الترانسفير" (الطرد الجماعي للفلسطينيين من أراضيهم)، ويبدو أن الحرب الجارية على غزة تمثل بالنسبة له فرصة تاريخية لتحقيق هذا الهدف، إن التركيز على "موراگ" كممر عبور وإعداد السكان "للنقل" ليس مجرد تحليل عسكري، بل هو مخطط تطهير عرقي صريح يُنتهك فيه القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تؤكد على عدم جواز تهجير السكان قسرًا.
عند قراءة هذه التصريحات في سياق السياسات الميدانية التي ينفذها جيش الاحتلال، نرى تطابقًا مخيفًا، إذ تقوم القوات الإسرائيلية بتدمير شامل للبنية التحتية، ضرب المستشفيات والمدارس، استهداف مخيمات النازحين، تقييد دخول المساعدات، وشن حملات تجويع ممنهجة، كل ذلك يتسق مع الخطاب الوزاري الذي يدعو إلى الجوع والتدمير والتهجير.
المعهد الأوروبي للسلام، ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، وأيضًا فريق خبراء مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أشاروا جميعًا إلى أن الكيان الإسرائيلي يستخدم "التجويع كسلاح حرب" وأن هذه السياسة قد تشكل جريمة إبادة جماعية وفقًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948.
الاقتصاد الإسرائيلي يدفع الثمن... ولكن هل يردعهم ذلك؟
من ناحية أخرى، وعلى الرغم من التصعيد الدموي والوحشي، بدأت الانعكاسات السلبية للحرب تظهر على الاقتصاد الإسرائيلي، فقد نقلت القناة العبرية "كان" عن وزارة المالية الإسرائيلية تقديراتها بأن توسيع العمليات في غزة سيكلّف الدولة عشرات المليارات من الشواكل، ما سيزيد من الضغط على الموازنة العامة، ويربك الوضع الاقتصادي الهش أساسًا منذ بدء الحرب.
"إسرائيل" تواجه انخفاضًا حادًا في التصنيف الائتماني، وتراجعًا في الاستثمارات، وانكماشًا في قطاعات السياحة والتكنولوجيا، ومع ذلك، فإن هذه التكلفة الباهظة لا تبدو كافية لردع ماكينة الحرب التي يقودها اليمين المتطرف، بل تستغلها الحكومة الحالية في تعزيز خطابها القومي والديني المتشدد، وتصوير الحرب كمصير لا بد منه، حتى لو دُمّرت غزة وانتهكت كل القوانين.
صمت دولي وتواطؤ إعلامي
من المثير للقلق أن مثل هذه التصريحات الإجرامية لم تلقَ أي رد فعل جاد من المجتمع الدولي، لم نسمع إدانة من الأمم المتحدة أو من الاتحاد الأوروبي أو حتى من الولايات المتحدة، التي تواصل دعمها السياسي والعسكري الكامل لـ"إسرائيل"، أما وسائل الإعلام الغربية، فقد تجاهلت هذه التصريحات بالكامل، وواصلت تقديم الحرب على غزة من منظور "الدفاع الإسرائيلي المشروع".
هذا الصمت يعكس تواطؤًا دوليًا خطيرًا، ويمنح "إسرائيل" ضوءًا أخضر للاستمرار في جرائمها، فالخطاب العنصري الذي يدعو للتجويع والتهجير لا يلقى أي عقاب، ما يشجع المزيد من القتل وانتهاك حقوق الإنسان.
رسائل هذه التصريحات وأبعادها الأخلاقية والقانونية
أولًا، تكشف تصريحات إلياهو وسموتريتش عن إفلاس أخلاقي عميق لدى النخبة السياسية الإسرائيلية، التي لم تعد ترى أي حرج في المجاهرة بنواياها العنصرية والتوسعية، ثانيًا، هذه التصريحات تشكل أدلة موثقة على نوايا الإبادة والتطهير العرقي، ويمكن أن تُستخدم في المستقبل في المحاكم الدولية مثل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية.
كما أن المجاهرة باستخدام الجوع كسلاح، والتهجير كخطة، تُعد خرقًا واضحًا لاتفاقيات جنيف، ويمكن تصنيفها ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهو ما يتطلب تحركًا قانونيًا جادًا من المنظمات الحقوقية الدولية، ومن الدول الداعمة للقانون الدولي.
مواجهة الخطاب بالإعلام والقانون والمقاومة
إن ما يميّز المرحلة الحالية من العدوان الإسرائيلي على غزة ليس فقط وحشية الأفعال، بل الوضوح التام في الأهداف الإجرامية التي بات يعلنها الوزراء والمسؤولون دون مواربة، تصريحات مثل تلك التي صدرت عن إلياهو وسموتريتش يجب ألا تمر مرور الكرام، ويجب توثيقها وترويجها عالميًا كدليل على الطبيعة الإجرامية لهذا الكيان.
كما تقع على عاتق الإعلام العربي والدولي الحر مسؤولية كبرى في نقل هذه التصريحات وتحليلها، وعدم السماح بإخفاء الحقيقة خلف شعارات "محاربة الإرهاب" أو "الدفاع عن النفس"، كذلك، يجب أن تُدرج هذه الأقوال ضمن ملفات التحقيق الدولي في جرائم الحرب المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة.
لقد أسقطت هذه التصريحات القناع الأخير عن وجه الاحتلال، ووضعت العالم أمام اختبار أخلاقي جديد: إما الانتصار للإنسانية والعدالة، أو التواطؤ مع الجريمة.