الوقت - لا تزال نيران الحرب المستعرة ضد قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 تلتهم الأخضر واليابس، ومع ولوجها عتبة عامها الثاني، يقف جيش الكيان الصهيوني على شفا هاوية من أزمة حادة في موارده البشرية.
وبينما تتوالى الضربات العسكرية دون انقطاع، ويتلظى نتنياهو شوقاً لإعادة بسط سطوته على غزة، يجابه جيش الاحتلال معضلةً وجوديةً في استقطاب المجندين، وخاصةً في خضم الجدل المحتدم حول إلزامية الخدمة العسكرية لأبناء الطوائف اليهودية المتشددة المعروفة باسم “الحريديم”.
وقد أماطت صحيفة “هآرتس” اللثام عن حقيقة مذهلة في هذا المضمار، مفادها بأن جيش الاحتلال قد أصدر زهاء عشرة آلاف أمر استدعاء لشباب الحريديم في الفترة الممتدة بين يوليو 2024 وأبريل 2025، بيد أن 205 منهم فقط لبوا النداء وانخرطوا فعلياً في سلك الجندية.
وأشارت هذه الصحيفة العبرية إلى حاجة الكيان الملحّة لرفد صفوفه بمزيد من الجنود، مؤكدةً أن الأهداف الأساسية للعمليات في غزة تتمثل في استرداد الأسرى، وممارسة الضغط العسكري لدفع عجلة المفاوضات، وتقويض أركان حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ونقلت القناة 12 الصهيونية عن مصدر عسكري رفيع تأكيده أن الجيش يعاني من نقص يناهز عشرة آلاف جندي، وأن عام 2025 سيكون عاماً فاصلاً في مصير الكيان.
معهد الأمن القومي الصهيوني: لواء “جولاني” تكبّد أفدح الخسائر في حرب غزة
في الوقت الذي تدق فيه نواقيس الخطر في أروقة الإعلام الصهيوني محذرةً من تضاؤل أعداد جنود الاحتياط باعتباره تحدياً جلل، يزداد المشهد قتامةً مع تصاعد حصيلة الضحايا بين صفوف المقاتلين، ما ينخر في قدرة الجيش على مواصلة المعارك في ظل تآكل رأس ماله البشري.
وفي هذا السياق، كشف معهد الأمن القومي الصهيوني اليوم (الأربعاء) في تقرير مفصل أن لواء “جولاني”، ذلك الصرح العسكري النخبوي والأسطوري في الجيش الصهيوني والذي لطالما وُصف بأنه “رأس الحربة في القيادة والقتال”، قد تلقى أفدح الضربات في هذه الحرب بفقدانه 109 من عناصره، مسجِّلاً بذلك أعلى معدل للخسائر البشرية.
تفاصيل الفاجعة في صفوف لواء جولاني:
استناداً إلى الأرقام المكشوف عنها في التقرير:
لقي 73 من عناصر هذا اللواء حتفهم في اليوم الأول للحرب (7 أكتوبر 2023) إبان انتشار الكتيبتين 13 و51 في قطاع غزة.
أفصح التقرير أن ثلثي القتلى الإسرائيليين في هذه الحرب ينتمون إلى صفوف القوات النظامية، بينما ينحدر الثلث المتبقي من جنود الاحتياط.
سجل الخسائر في الوحدات العسكرية الأخرى:
لواء جفعاتي: 68 قتيلاً
لواء النحال: 63 قتيلاً
لواء المظليين: 46 قتيلاً
وحدة الكوماندوز: 43 قتيلاً
اللواء المدرع السابع: 29 قتيلاً (19 منهم سقطوا في اليوم الأول للحرب، وغالبيتهم من الكتيبة 77 التي كانت تتمركز في محيط غزة)
لواء الاحتياط 261: 22 قتيلاً (19 منهم لقوا مصرعهم في حادثة واحدة)
لواء الاحتياط 551: 20 قتيلاً
الحصيلة الشاملة للخسائر العسكرية الصهيونية:
وفقاً لآخر تحديث صادر عن جيش الاحتلال، بلغ عدد القتلى العسكريين للكيان منذ الـ 7 من أكتوبر 2023 حتى الآن (في العمليات البرية في غزة ولبنان) 850 قتيلاً.
غير أن هذه الإحصاءات تثير سحابةً من الشكوك، نظراً للتاريخ الطويل من التعتيم والتضليل على حجم الخسائر والأضرار الحربية من قبل المؤسسة العسكرية، والجدير بالذكر أن الرقابة العسكرية هي ذراع متشعبة تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال، يتولى زمامها مسؤول عسكري يعينه وزير الدفاع الإسرائيلي، وتضطلع بمهمة الرقابة الوقائية داخل الأراضي المحتلة، فيما يتعلق بحجب المعلومات التي قد تنال من الأمن القومي.
وفي خضم هذه الظروف العصيبة، فإن عجز الجيش عن استخلاص الأسرى رغم تحويل غزة إلى أطلال وارتكاب المجازر الوحشية بحق المدنيين الفلسطينيين، إلى جانب تصاعد منحنى الخسائر الناجم عن استمرار العمليات البطولية لمقاتلي حماس، قد قوّض أركان المعنويات العسكرية وبدّد آمال المجتمع الصهيوني في جدوى استمرار آلة الحرب، وقد تجلى هذا الانهيار المعنوي بوضوح في تتابع عرائض الاحتجاج في شتى قطاعات الجيش، وتفشي ظاهرة تمرد الضباط على تنفيذ الأوامر العسكرية.
في المحصلة، لا تكشف هذه الأرقام عن فداحة الخسائر التي تكبدتها القوات العسكرية الصهيونية فحسب، بل تفضح أيضاً الهوة السحيقة بين الدعاية الإعلامية المضللة وحقائق ساحات الحرب، واستمرار هذا المنحى التصاعدي للخسائر قد يفضي إلى تأجيج الضغوط الداخلية على حكومة نتنياهو، وزعزعة الثقة في الاستراتيجيات العسكرية للكيان المحتل.
الحاجة الأمنية المستعصية والنزيف الاقتصادي المستفحل
لم يقتصر أثر النقص الحاد في القوى البشرية على القطاع العسكري وحده، بل امتدت تداعياته بجلاء إلى بنيان الاقتصاد الصهيوني الذي انزلق إلى هاوية الركود المتسارع، في ظل إصرار الحكومة على مواصلة الحرب الشاملة ضد أهالي غزة الصامدين.
استناداً إلى تقرير وافٍ نشرته صحيفة “كالكاليست”، فقد وُثّقت الأضرار الاقتصادية الفادحة التي أصابت كبد الكيان الصهيوني في عام 2024 جراء النفقات العسكرية الباهظة والإخفاق الذريع في استقطاب الحريديم للخدمة العسكرية، ويكشف التقرير أن فاتورة الخسائر بلغت نحو 8.5 مليارات شيكل (ما يعادل 6٪ من إجمالي النفقات العسكرية في العام نفسه)، وبلغت تكلفة استدعاء قوات الاحتياط وحدها 2.9 مليار شيكل، بينما تكبد اقتصاد الكيان خسائر إضافية قدرها 3.5 مليارات شيكل بسبب انحدار الناتج المحلي الإجمالي.
تأثير الغياب المديد لجنود الاحتياط على سوق العمل
أفضى الغياب طويل الأمد لجنود الاحتياط عن ساحة العمل، إلى تفاقم الجراح الاقتصادية النازفة، ويبرز التقرير المذكور أن تكلفة كل يوم خدمة لجندي احتياط تبلغ 2500 شيكل، في حين تُقدر تكلفة الجندي العادي من أبناء طائفة الحريديم بـ 700 شيكل فقط، وقد أشار “حان هرتسوغ”، كبير الاقتصاديين في شركة “بي دي أو”، إلى أن توسيع مظلة الخدمة الإلزامية لتشمل مجتمع الحريديم، من شأنه أن يخفض نحو 70٪ من أعباء الاعتماد على قوات الاحتياط.
ويستطرد التقرير قائلاً إنه لو تم تجنيد 27 ألف شاب من طلاب المعاهد الدينية - الذين لم يعودوا يتمتعون بامتياز تأجيل الخدمة - لانحسرت الخسائر الاقتصادية بصورة ملموسة.
كما أطلق مسؤولو وزارة المالية الإسرائيلية صافرة إنذار مدوية، محذرين من أنه إذا ظل مستوى انخراط الحريديم في سوق العمل متدنياً، فإن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي سينحدر بنسبة 3٪ بحلول عام 2030، وقد تتفاقم هذه النسبة لتصل إلى 13٪ بحلول عام 2060، وأكد “كفير بطات”، نائب مدير قسم الميزانية في الوزارة، أن إدماج رجال الحريديم والنساء العربيات في منظومة العمل، من شأنه أن يرفع مستوى الرفاهية بنحو 20٪.
نذر تفاقم الأزمة الاقتصادية
دقّت بعض التقارير الاقتصادية الأخرى في الكيان الصهيوني ناقوس الخطر، محذرةً من أن هذه الأزمة تغوص في أعماق أشدّ قتامةً، ووصفت صحيفة كالكاليست الوضع الراهن بأنه “شرك الديون” الذي تتسع فكوكه يوماً بعد يوم، حيث يتعاظم العجز في الميزانية، وتتصاعد تكاليف الاقتراض، وفي المقابل تتنامى مؤشرات المخاطر وأسعار الفائدة، وينحسر نمو الإنتاجية، ويخلص التقرير إلى أن هذه الظروف أفضت إلى تضخم سريع في الدين العام قياساً إلى الناتج المحلي الإجمالي، وضاعفت الضغط على المشهد المالي للحكومة، بحيث سيتعاظم عبء خدمة هذه الديون في قادم الأيام.
أرقام صادمة تكشف استفحال الاضطرابات النفسية
من زاوية أخرى، ترکت الحرب الدائرة آثاراً عميقةً في جسد المجتمع الصهيوني؛ آثاراً لا تقتصر على الأبعاد البشرية والاقتصادية فحسب، ولا تنحصر في مخاوف الصهاينة حول مصير كيانهم، بل امتد ظلها القاتم ليطوق صحتهم النفسية بطوق من الاضطراب الحاد.
استناداً إلى تقرير مفصل أصدره مركز معلومات الجبهة الداخلية (التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية) ووزارة الاقتصاد في الكيان الصهيوني وتناقله موقع “تايم أوف إسرائيل”، فإن الحرب الراهنة قد ألحقت جروحاً غائرةً بالنسيج النفسي للمستوطنين الصهاينة، وخلفت وراءها آثاراً نفسيةً مدمرةً طالت شرائح واسعة من المجتمع.
ووفقاً لما أورده “تايم أوف إسرائيل”، يكشف هذا التقرير أن الحرب قد أفضت إلى وضع غير مسبوق تعرضت فيه شريحة عريضة من السكان لخطر الوقوع في براثن اضطرابات نفسية متنوعة، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والقلق المزمن، والاكتئاب الحاد، وآفة الإدمان، وفي الواقع، يئنّ معظم سكان الأراضي المحتلة تحت وطأة درجات متفاوتة من الاضطراب النفسي، ومن مظاهر ذلك:
قفزة هائلة بنسبة 900٪ في معدلات مراجعة مراكز خدمات الصحة النفسية عقب اندلاع الحرب مقارنة بالفترة السابقة لها.
تضاعف أعداد الأفراد الساعين للحصول على المساعدة النفسية الفردية والأسرية والجماعية بنسبة 100٪،
تضخم عدد الإحالات إلى مركز “ناتال” (مركز مساندة ضحايا الصدمات الوطنية) بمعدل 15 ضعفاً في الأشهر الأولى من الحرب، ففي عام 2022، قصد المركز نحو 1540 شخصاً، لكن منذ اشتعال فتيل الحرب حتى يونيو 2024 (خلال 9 أشهر)، استفاد من خدماته 43 ألف شخص (26 ألف رجل و17 ألف امرأة).
ومن اللافت للنظر أن 39٪ من المترددين على مركز “ناتال” كانوا من صفوف جنود الاحتياط (أي ما يعادل 10 أضعاف نسبتهم في التركيبة السكانية)، ووفقاً لبيانات وزارة الحرب الإسرائيلية، فقد أصيب 10056 جندي احتياط وعنصراً أمنياً في الفترة الممتدة من أكتوبر 2023 إلى أغسطس 2024، يعاني ثلثهم من أعراض نفسية متفاوتة الحدة.
زيادة هائلة بنسبة 950٪ في طلبات الاستشارة النفسية لجمعية “آران” بشأن نوبات القلق والصدمات النفسية ومشاعر الحزن والفقدان.
تضخم أعداد المرضى الجدد في المراكز العلاجية الحكومية من 1500 شخص في كل 6 أشهر قبل الحرب، إلى 8700 شخص منذ اشتعال فتيل الحرب حتى أبريل 2024.
صورة قاتمة ترسمها استطلاعات الرأي
في السياق ذاته، وحسب تقرير أوردته قناة الجزيرة، كشف استطلاع أجراه صندوق التأمين “مكابي” في مارس 2024 عن حقائق صادمة:
30٪ من الصهاينة يرزحون تحت نير حالة نفسية “متوسطة إلى سيئة”
55٪ من النساء و31٪ من الرجال أقروا بتدهور صحتهم النفسية
62٪ من النساء و38٪ من الرجال أبلغوا عن تراجع ملحوظ في جودة النوم
55٪ من الصهاينة يعانون من درجات متفاوتة من القلق المرضي (مقارنةً بـ 11٪ قبل اندلاع الحرب)، و23٪ يئنون تحت وطأة قلق “متوسط إلى شديد”.
كما أماط استطلاع أجرته جامعة حيفا بالتعاون مع مركز روبين، اللثام عن حقيقة مذهلة مفادها بأن 75٪ من الصهاينة يعانون من “إرهاق عاطفي” مزمن.
ووفقاً لدراسات علمية أجرتها جامعة أريئيل، عانى قرابة نصف الإسرائيليين في الأسابيع الأولى من الحرب، من أعراض الاكتئاب وخمود الدافعية وتدني الإنتاجية.
وتلوح في الأفق توقعات قاتمة تشير إلى أنه في حال استمرار رحى الحرب، ستقع فريسة لاضطراب ما بعد الصدمة على المدى البعيد شريحة تتراوح بين 13 ألفاً و60 ألف شخص، وعلاوةً على ذلك، سيخوض عدد غفير آخر معركةً ضاريةً مع شبح القلق والاكتئاب وطيف واسع من الاضطرابات النفسية الأخرى.