الوقت- لم تمضِ ثلاث أشهر على استلام أحمد الشرع المعروف بالجولاني "الإدارة الجديدة" في سورية، حتى باتت البلاد تغرق في دوامة من الأزمات غير المسبوقة. موجات التسريح التعسفي تطال الموظفين والعمال بلا رحمة، فيما يشهد الاقتصاد انهيارًا متسارعًا ينعكس في ارتفاع الأسعار وتدهور مستوى المعيشة. أما الأمن، فقد أصبح مجرد شعار زائف، حيث يعاني المواطنون من فلتان أمني لم تشهده البلاد حتى في أشد مراحل الحرب قسوة وأصبحت الحقائق تتكشف يوماً بعد يوم رغم التعتيم الإعلامي ومحاولات تبييض صفحة هيئة تحرير الشام و القيادات الجديدة التي تم جلبها إلى البلاد والوعود الوردية التي تم تقديمها للشعب السوري أضحت كابوس . فهل كانت هذه "الإدارة" حلاً، أم كارثة جديدة تضاف إلى سجل امعاناة الشعب السوري؟
أبرز تحديات اليوم
تعتبر موجة الاحتجاجات المطلبية التي تشهدها سورية في عدة محافظات منذ سقوط نظام الأسد بالغير مسبوقة، تصدرت هذه الاحتجاجات مطالب معيشية مرتبطة بانقطاع رواتب المتقاعدين المدنيين والعسكريين، وأخرى تطالب بإعادة النظر في فصل مئات العاملين في أجهزة وقطاعات الدولة وأخرى مطالبة بتحسين الخدمات.
وفي إطار العمل على ما يصفه مسؤولون في الحكومة "إعادة هيكلة المؤسسات العامة"، تم فصل الآلاف من الموظفين في القطاع العام، ومنح إجازات مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر لموظفين آخرين.
تتحدث أوساط حكومية عن "عطالة مقنعة" أو ما سمتها "العطالة الشبح"، في إشارة إلى موظفين لا يؤدّون مهامهم بشكل فعلي، بينما تؤكد من ناحية أخرى أن خفض النفقات يتطلب قرارات صعبة، كفصل موظفين في قطاعات تعاني من شح الموارد لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة ومحاربة الترهل الوظيفي. لكن الواقع يُظهر أن آلاف العاملين في القطاع العام، بخاصة في المؤسسات شبه المُتعطلة بسبب الحرب والعقوبات الدولية، باتوا أمام خيارين: قبول فقدان وظائفهم بشكل دائم، أو الخروج بتظاهرات ضد هذه القرارات.
وتعتبر فئة المتقاعدين من أكثر الفئات تضرراً، حيث يعاني الكثيرون من تأخر صرف الرواتب لشهور، أو خفضها بشكل تعسفي. المتقاعد من مدينة حلب الذي عرّف نفسه باسم أبو أحمد، يصف وضعه بالقول: "راتبي لم يعد يكفي لشراء الأدوية، فكيف بالغذاء؟ الحكومة تتعامل معنا كأرقام، لا كبشر".
أما العمال الذين يواجهون خطر الفصل، فيعيشون حالة من القلق الوجودي. وتقول سميرة، عاملة في مؤسسة حكومية في دمشق: "الإجازة بدون راتب تعني الموت جوعاً.. ليس لدينا مدخرات، والوظائف البديلة شبه معدومة".
في المقابل بررت الحكومة السورية المؤقتة، قراراتها بإعطاء المئات من العمال إجازات براتب أو بدون، بأن ذلك يأتي في سياق حزمة إصلاحات اقتصادية وإدارية جذرية لكن ماتخفيه هذه القرارات أنه تم اتخاذها بحق من لايتناسب مع فكر الإدارة الجديدة و بحق من صمت على النظام السابق بمعنى آخر هو إجراء انتقامي بحت في طياته
الاحتجاجات لن تتوقف
في ظل الحراك العمالي المتصاعد في مواجهة سلسلة من القرارات الحكومية التي عمّقت الأزمة الاقتصادية وأدخلت آلاف العمال والموظفين في دوامة البطالة القسرية. و في ظل استمرار حكومة تصريف الأعمال في تنفيذ سياسات التسريح، وعدم تجديد العقود، والإجازات القسرية، ظهرت تنسيقيات عمالية ديمقراطية كمحاولة لتنظيم الاحتجاجات والضغط على السلطات للتراجع عن هذه الإجراءات، التي يعتبرها العمال "متسرعة، مجحفة، وغير مدروسة". وكانت رابطة عمال التغيير الديمقراطي، في السادس من شباط/ فبراير الماضي، أعلنت عن تشكيل تنسيقيات عمالية ديمقراطية مستقلة وغير مسيسة في عدد من المحافظات السورية "لتوحيد الاحتجاجات والاعتصامات المُطَالبة بإلغاء كافة القرارات الحكومية الصادرة عن حكومة تصريف الأعمال.
و يرى المحتجون الذين عبروا عن استمرارهم في الاحتجاج حتى تحقيق مطالبهم أن القضية تتجاوز مجرد إجراءات إدارية؛ إذ يعتبرون أن هذه السياسات ليست سوى جزء من توجه أوسع نحو الخصخصة وإضعاف القطاع العام لصالح رجال الأعمال المقربين من السلطة. فإلى جانب إنهاء وظائف العمال، يجري إضعاف المؤسسات الإنتاجية الوطنية، ما يهدد ليس فقط الاستقرار الاقتصادي بل أيضًا الأمن الاجتماعي. وهنا يبرز تساؤل جوهري: هل تسعى الحكومة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد وفق رؤية تنموية حقيقية، أم أن ما يحدث هو مجرد تفكيك ممنهج للقطاع العام لصالح نخبة اقتصادية محدودة؟
اللافت أن التنسيقيات العمالية، رغم رفضها التسييس والانخراط في الأجندات الإعلامية الدولية، تجد نفسها مضطرة لخوض معركة بقاء أمام حكومة لا تبدي أي استعداد للتراجع أو حتى للحوار الجاد. في ظل هذه المعادلة، تبدو الخيارات محدودة أمام العمال، الذين يواجهون ليس فقط شبح البطالة، بل أيضًا تغييبهم عن أي نقاش حقيقي حول مستقبلهم ومستقبل الاقتصاد السوري ككل. فيما تعاني هذه التنسيقيات من عدم القدرة على التواصل مباشرة مع الحكومة الحالية لأنها لا تزال "غير متناغمة"
فلتان أمني
تحت قيادة الجولاني، تحولت سوريا إلى ساحة فوضى مفتوحة، حيث لم يعد الانفلات الأمني مجرد ظاهرة عابرة، بل أصبح سمة أساسية تعكس عجز الإدارة الجديدة عن فرض أي شكل من أشكال الاستقرار. فمنذ أن تولى الجولاني ومجموعته زمام الأمور، تشهد البلاد ارتفاعًا غير مسبوق في معدل الجرائم، مع تصاعد عمليات القتل، الخطف، والسطو المسلح، في ظل غياب شبه كامل للمحاسبة والرقابة الأمنية.
ما حدث في بانياس، القرداحة، وعين شمس، جرمانا و غيرها ليس إلا امتدادًا لهذه الفوضى، حيث أصبحت الحملات الأمنية ذات طابع استعراضي، أكثر منها عمليات لضبط الأمن. فبدلًا من تحقيق الأمان، مارست الأجهزة الأمنية الجديدة انتهاكات جسيمة بحق الأهالي، عبر الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والنهب، بل وحتى توظيف الإعلام في مشاهد مفبركة لتبرير القمع. وبينما تدّعي هذه الإدارة أنها تسعى للحفاظ على "السلم الأهلي"، فإن ما يجري على الأرض يعكس العكس تمامًا، مع تنامي الخطاب الطائفي، وغياب أي استراتيجية حقيقية لضبط الأمن بعيدًا عن الاستعراضات العسكرية الفارغة.
وفي ظل غياب وزارة الداخلية بعد حلّها، وتفكيك أجهزتها، بات واضحًا أن هذه الإدارة لا تمتلك الأدوات اللازمة لضبط الأمن، ولا حتى الرغبة الحقيقية في ذلك. فارتفاع معدل الجريمة بهذا الشكل الخطير، وتسجيل 173 حادثًا أمنيًا منذ بداية العام راح ضحيتها 314 شخصاً وتسجيل القسم الأكبر منها ضد مجهولين، دليل قاطع على أن السلطة الجديدة فقدت السيطرة، وأن المواطنين باتوا عرضة للعنف والفوضى، دون أي جهة تحميهم أو تضمن لهم أبسط مقومات الأمان. فهل كانت هذه "الإدارة" فعلًا بديلاً عن الفوضى، أم أنها أصبحت الوجه الجديد لها؟
ختام القول
بعد قرابة الثلاث أشهر من حكم الجولاني، لم تشهد سورية أي بوادر للخروج من أزماتها، بل تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والأمنية بشكل غير مسبوق. فبينما يعاني المواطنون من الفقر والتضييق المعيشي جراء سياسات اقتصادية فاشلة قائمة على الخصخصة العشوائية والتسريح التعسفي، يعيشون في الوقت ذاته تحت تهديد الانفلات الأمني الذي يحوّل حياتهم إلى كابوس يومي. لا حكومة قادرة على ضبط الأسواق، ولا أجهزة أمنية قادرة على حماية المواطنين، بل إدارة تتخبط بين قرارات متخبطة وقمع ممنهج، تاركة البلاد في حالة من الفوضى المنظمة. ومع استمرار هذا المسار الكارثي، يبقى السؤال الأهم: هل سيظل السوريون أسرى لهذه الدوامة، أم أن لحظة التغيير ستفرض نفسها عاجلًا أم آجلًا؟