الوقت - في الأسابیع الأخیرة، أصبح موضوع فرض عقوبات على المحکمة الجنائیة الدولیة (ICC) من قبل الولایات المتحدة الأمریکیة واحداً من أبرز القضایا المثیرة للجدل على الساحة السیاسیة الداخلیة والدولیة، وقد حظي هذا الموضوع باهتمام واسع، وخاصة بعد أن فشل مقترح فرض العقوبات على هذه الهیئة الدولیة في الحصول على الأغلبیة المطلوبة فی مجلس الشیوخ، هذا الحدث لا یعکس فقط الانقسامات الداخلیة في سیاسة الوالایات المتحدة الخارجیة، بل یرسم صورة أوسع للتحدّیات المتعلقة بالسیادة الوطنیة، العدالة الدولیة، ودور المؤسسات متعددة الأطراف في النظام العالمي.
خلفیة المحکمة الجنائیة الدولیة وموقف الوالایات المتحدة
تأسست المحکمة الجنائیة الدولیة (ICC) عام 2002 بناءً على نظام روما الأساسي، ومقرها فی لاهاي، هولندا. تعدّ هذه المحکمة أول مؤسسة قضائیة دولیة دائمة مختصة بمحاکمة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانیة، وجریمة الإبادة الجماعیة، وجریمة العدوان، ومع ذلك، اتخذت الولایات المتحدة الأمریکیة منذ البدایة موقفاً حذراً، بل معادیاً أحياناً، تجاه هذه المحکمة، فقد امتنعت الولایات المتحدة عن التوقیع على نظام روما الأساسي خلال فترة رئاسة جورج دبلیو بوش، بل أصدرت قانوناً یعرف باسم "قانون حماية الموظفین الأمریکیین" (أو قانون لاهاي)، الذي یسمح للحکومة الأمریکیة باستخدام القوة العسکریة لتحریر مواطنیها أو جنودها في حال اعتقالهم من قبل المحکمة الجنائیة الدولیة.
هذا الموقف العدائي نابع من مخاوف الولایات المتحدة بشأن سیادتها الوطنیة وإمکانیة محاکمة مواطنیها أو جنودها أمام مؤسسة دولیة، ومع ذلك، شهدت العلاقات بین الولایات المتحدة والمحکمة الجنائیة الدولیة تحسناً نسبیاً خلال فترة رئاسة باراك أوباما، حیث شارکت الولایات المتحدة کمراقب في جلسات المحکمة، وقامت بتعاون محدود معها، ومع هذا، لم تنضم الولایات المتحدة أبداً إلى عضویة المحکمة، وظلت تحتفظ بمخاوفها بشأن سیادتها الوطنیة وإمکانیة استخدام المحکمة کأداة سیاسیة.
مقترح تحریم المحکمة الجنائیة الدولیة: الأسباب والدوافع
في السنوات الأخیرة، وخاصة بعد أن بدأت المحکمة الجنائیة الدولیة تحقیقات حول جرائم حرب محتملة في أفغانستان، وأیضاً حول إجراءات "إسرائیل" في الأراضی الفلسطینیة، ازدادت الضغوط لفرض عقوبات على هذه الهیئة الدولیة، ففی عام 2020، فرضت إدارة دونالد ترامب عقوبات على مسؤولي المحکمة، وحجبت أصول فاتو بنسودا، المدعیة العامة للمحکمة، وأحد المسؤولین الکبار فیها، وقد واجهت هذه الإجراءات انتقادات واسعة من المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان.
مع مجيء إدارة جو بایدن، ألغت الولایات المتحدة بعض هذه العقوبات، وتبنّت موقفاً أكثر اعتدالاً تجاه المحکمة، ومع ذلك، ظل بعض أعضاء مجلس الشیوخ من الجمهوریین وحتى الدیمقراطیین یطالبون بمواصلة الضغط على هذه الهیئة الدولیة، وقد تم تقدیم مقترح فرض عقوبات على المحکمة فی مجلس الشیوخ فی هذا السیاق، حیث یجادل مؤیدو العقوبات بأن المحکمة الجنائیة الدولیة قد تتحول إلى أداة لاستهداف حلفاء الولایات المتحدة، وخاصة "إسرائیل"، ما یضعف سیادة الدول.
فشل مقترح التحریم فی مجلس الشیوخ: الأسباب والتداعیات
واجه مقترح فرض عقوبات على المحکمة الجنائیة الدولیة معارضة قویة فی مجلس الشیوخ، وفشل في النهایة في الحصول على الأغلبیة المطلوبة، هذا الفشل یعکس الانقسامات العمیقة في سیاسة الولایات المتحدة الخارجیة، فمن جهة، یعتقد بعض أعضاء مجلس الشیوخ والسیاسیین أن فرض عقوبات على المحکمة قد یؤدي إلى إضعاف موقع الولایات المتحدة کمدافعة عن حقوق الإنسان والعدالة الدولیة، ویجادلون بأن على الولایات المتحدة دعم المؤسسات الدولیة لتعزیز النظام العالمی ومحاربة الظلم.
من جهة أخرى، یعتقد المعارضون أن مثل هذه الإجراءات قد تزید من عزلة الولایات المتحدة على الساحة الدولیة، وتجعل التعاون مع الحلفاء أمراً أصعب، بالإضافة إلى ذلك، یشیرون إلى أن فرض عقوبات على المحکمة قد یضر بالمصالح طويلة الأمد للولایات المتحدة، حیث قد یضعف التعاون الدولي في مجال مكافحة جرائم الحرب وانتهاکات حقوق الإنسان، ویؤدي إلى فقدان الثقة بالولایات المتحدة على المستوى العالمي.
یُظهر فشل مقترح فرض عقوبات على المحکمة الجنائیة الدولیة أن سیاسة الولایات المتحدة تجاه المؤسسات الدولیة لا تزال موضوعاً مثيراً للجدل، فبینما یسعى بعض السیاسیین إلى تعزیز السیادة الوطنیة وتقلیل الاعتماد على المؤسسات متعددة الأطراف، یؤکد آخرون على أهمیة التعاون الدولي ودعم مؤسسات مثل المحکمة الجنائیة الدولیة.
في المستقبل، من المرجح أن تستمر هذه التحدّیات، وخاصة مع تطور الأوضاع العالمیة وزیادة التوترات فی مناطق مختلفة، على الولایات المتحدة، کإحدى القوى العظمى في العالم، أن توازن بین مصالحها الوطنیة والتزاماتها الدولیة، هذا التوازن لن یؤثر فقط على موقع الولایات المتحدة في العالم، بل قد یشکل مستقبل النظام الدولي والعدالة العالمیة.
فشل مقترح فرض عقوبات على المحکمة الجنائیة الدولیة فی مجلس الشیوخ یعکس الانقسامات العمیقة فی سیاسة الولایات المتحدة الخارجیة، هذا الحدث لا یعکس فقط التحدّیات الداخلیة فی تحدید التوجهات الدولیة، بل یرسم صورة أوسع للتوترات المتعلقة بالسیادة الوطنیة، العدالة الدولیة، ودور المؤسسات متعددة الأطراف في النظام العالمي.
بینما یسعى بعض السیاسیین إلى تعزیز السیادة الوطنیة وتقلیل الاعتماد على المؤسسات الدولیة، یؤکد آخرون على أهمیة التعاون ودعم هذه المؤسسات، مستقبل سیاسة الولایات المتحدة الخارجیة وموقعها في العالم سیتحدد إلى حد کبیر من خلال طریقة إدارة هذه التوترات، وعلى الولایات المتحدة أن توازن بین مصالحها الوطنیة والتزاماتها الدولیة لتعزیز النظام العالمي ومحاربة الظلم، وإلا، فإنها تخاطر بالعزلة وفقدان النفوذ على الساحة الدولیة.
