الوقت - في ظل المشهد المتحول عقب انهيار النظام السابق وصعود القوى المسلحة، تحولت دمشق إلى محور ارتكاز للحراك الدبلوماسي الإقليمي والدولي، وفي تسلسلٍ دبلوماسي لافت، وبعد توافد ممثلي الدول العربية وتركيا والقوى الأوروبية، حطّ الوفد الأمريكي رحاله في دمشق، في لقاءٍ تاريخي أول من نوعه مع أحمد الشرع (المعروف بأبي محمد الجولاني)، القائد العام لهيئة تحرير الشام، بهدف استشراف رؤية الجماعة لمستقبل سوريا في حقبة ما بعد الأسد.
وضمّ الوفد الأمريكي رفيع المستوى كلاً من باربرا ليف، الدبلوماسية المخضرمة في شؤون الشرق الأوسط، وروجر كارستنز، المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن، ودانيال روبنشتاين، الممثل المعيّن حديثاً لوزارة الخارجية الأمريكية في سوريا، وحسب البيان الرسمي للخارجية الأمريكية، تمحورت المباحثات حول ملف المواطنين الأمريكيين المفقودين في سوريا، إلى جانب مناقشة المبادئ المتفق عليها بين الولايات المتحدة وشركائها في اجتماعات العقبة.
وفي سياق متصل، عقدت باربرا ليف سلسلة لقاءات موسعة مع قيادات المجتمع المدني والناشطين السوريين، في محاولة لاستقراء تصوراتهم حول مستقبل البلاد، وفي تصريح دبلوماسي، أشارت ليف إلى أن "اللقاء الأول كان إيجابياً، غير أن المحك الحقيقي يكمن في الأفعال لا الأقوال، مع التركيز بشكل جوهري على وضع سوريا على مسار النهوض الاقتصادي".
تُمثل هذه الزيارة الأمريكية الأخيرة إلى دمشق، في سياق التطورات المتسارعة على الساحة السورية، تحولاً جذرياً في الاستراتيجية الأمريكية، إذ تنتقل من النهج العسكري المهيمن خلال السنوات الماضية، إلى الدبلوماسية المباشرة والفاعلة، وتندرج هذه اللقاءات ضمن المساعي الأمريكية الشاملة لإدارة الأزمة السورية وإعادة صياغة السياسة الأمريكية تجاه دمشق، وفق معطيات المرحلة الراهنة.
رفع العقوبات
برز ملف رفع العقوبات المفروضة على سوريا، ولا سيما "قانون قيصر"، وكذلك مسألة شطب "هيئة تحرير الشام" من قوائم المنظمات الإرهابية، كمحور أساسي في المباحثات الدبلوماسية بين الوفد الأمريكي رفيع المستوى والجولاني.
وفي هذا السياق، تُجري إدارة الرئيس جو بايدن دراسةً لتقييم إمكانية رفع التصنيف الإرهابي عن "هيئة تحرير الشام"، مع وضع شروط محددة تتمحور حول اتخاذ الهيئة خطوات ملموسة في مجالات حقوق الإنسان، وضمان المشاركة الفعّالة للأقليات.
وفي خطوة دبلوماسية تعكس التحول في السياسة الأمريكية، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في أعقاب اللقاء بين الوفد الأمريكي والجولاني، عن إلغاء المكافأة المالية البالغة عشرة ملايين دولار أمريكي، والتي كانت قد خصصتها سابقاً لمن يدلي بمعلومات عن الجولاني.
ومن المثير للاهتمام في هذا السياق، أنه على الرغم من إدراج الجولاني و"هيئة تحرير الشام" ضمن القوائم الإرهابية الغربية طوال العقد المنصرم، إلا أن واشنطن وحلفاءها لم يتخذوا أي إجراءات استثنائية ضد الهيئة، على عكس الإجراءات الظاهرية التي اتُخذت ضد عناصر تنظيم "داعش" بل على النقيض من ذلك، شهدت مراحل متعددة ولقاءات سرية بين مسؤولين أمريكيين وقيادات هذه الجماعات، بهدف تنسيق الجهود وتعزيز التعاون في مواجهة الحكومة المركزية السورية.
وعليه، يمكن تفسير مساعي رفع التصنيف الإرهابي في إطار استراتيجية أمريكية شاملة، تستهدف تمهيد الطريق نحو تعاون مؤسسي مع "هيئة تحرير الشام"، وترسيخ أسس العلاقات المستقبلية مع النظام السياسي الجديد في سوريا.
رؤية غامضة لحكومة شاملة
تتسلط الأضواء هذه الأيام على مسألة جوهرية تشغل بال الشعب السوري والمجتمع الدولي؛ ألا وهي نوع الحكومة المراد إرساؤها في البلاد، وفي هذا الإطار، أكدت وزارة الخارجية الأمريكية خلال اجتماع عُقد في دمشق، على أهمية دعم مسار سياسي شامل يضمّ جميع الأقليات.
وضعت الولايات المتحدة مجموعةً من المبادئ الأساسية بشأن سوريا الجديدة، ومن أبرزها ضرورة احترام حقوق الأقليات وتأسيس حكومة شاملة، حيث تسعى واشنطن إلى إشراك هذه المبادئ في عمليات انتقال السلطة في البلاد، وقد أكّد جو بايدن بدوره على أهمية احترام حقوق الإنسان والالتزام بالقوانين الدولية، علاوةً على اتخاذ كل التدابير الوقائية اللازمة لحماية المدنيين، بما يشمل أعضاء الأقليات في سوريا.
وفي سياق متصل، شدد الجولاني في لقاءاته الأخيرة على أن هيئة تحرير الشام تسعى لإنشاء حكومة شاملة وغير طائفية، تمثّل جميع مكونات المجتمع السوري، غير أن هناك خشيةً قائمةً من أن تُستبعد بعض التيارات السياسية من دائر السلطة في الحكومة القادمة، وخصوصاً نظراً للتاريخ المضطرب لهذه الجماعات مع تنظيم القاعدة وأيديولوجياتها المتطرفة، إضافةً إلى تباين فهمهم للدين.
تظل الحكومة الشاملة التي تنادي بها الولايات المتحدة وحلفاؤها تفتقر إلى إطار عمل محدد، ولا يزال غير واضح أي التيارات السياسية ستدخل في تركيبتها، على سبيل المثال، يبقى مصير العلويين، الذين يمثّلون حصةً كبيرةً من السكان وقد كانوا في مواقع السلطة العليا سابقًا، غير مُحدد؛ حيث يتحتم معرفة ما إذا كانوا سيحظون بمساحة في الحكومة القادمة.
وفيما يتعلق بالأكراد، الذين تسعى الولايات المتحدة بكل السبل لضمان تمثيلهم في الحكومة الجديدة، يبدو أن الجولاني قد ضمن الاستفادة منهم، إلا أن هناك عقبةً كأداء تحيط بهذا الملف، فعلى الرغم من دعم الولايات المتحدة للأكراد في شرق سوريا على مدار العقد الفائت، إلا أن تركيا تُظهر عدم استعدادها للتفاوض أو التنازل تجاههم.
وقد صرح رجب طيب أردوغان، الرئيس التركي، الذي يعتبر نفسه الرابح الأكبر في أحداث سوريا، بعدة تهديدات تجاه الجماعات الإرهابية في شمال سوريا، مؤكدًا أنه لن يترك سوريا وحيدةً في مواجهتها مع "داعش" والأكراد، لذا، وبالنظر إلى السياسة التركية المعلنة حيال الأكراد، لا يبدو أن هناك أملًا واضحًا في وجود هؤلاء في الحكومة المرتقبة.
أما بالنسبة لبقية الأقليات الدينية، مثل المسيحيين، ورغم تفاؤلهم بإمكانية تحسين الوضع، إلا أنهم يشعرون بالقلق من احتمال عدم تمكنهم من انتزاع دور لهم في هياكل السلطة السورية الجديدة.
قلق واشنطن من تنامي قوة "داعش"
شهدت المباحثات رفيعة المستوى بين المسؤولين الأمريكيين وقيادات هيئة تحرير الشام، تناولاً للمستجدات الإقليمية وضرورة تضافر الجهود لمكافحة الإرهاب وتنظيم "داعش".
وفي ظل الاضطراب الأمني المتفاقم في سوريا، تتنامى المخاوف من تحول أراضيها إلى ملاذ آمن لتنظيمي القاعدة و"داعش"، وتشير المعطيات الراهنة إلى توافر بيئة خصبة لإعادة تموضع هذه التنظيمات، ولا سيما في حال عجز المنظومة الحاكمة الجديدة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين والأقليات، ما قد يتيح لهذه التنظيمات استغلال الفراغ الخدمي لزعزعة الاستقرار.
وعلى الرغم من عدم تسجيل أي عمليات لـ"داعش" ضد الكيان الصهيوني، إلا أن الأداء المتواضع لهيئة تحرير الشام في التصدي للتوسع الإسرائيلي في الأراضي السورية، قد يمنح التنظيم فرصةً ذهبيةً لاستثارة المشاعر القومية السورية والتمهيد لعودته إلى المشهد، وقد أطلق مسؤولون عراقيون تحذيرات جادة من مساعي "داعش" لإعادة هيكلة صفوفه، مستفيداً من المعدات العسكرية المستولى عليها من الجيش السوري، ونظراً لعقيدة التنظيم التكفيرية الرافضة لأي نظام حكم خارج إطار خلافته المزعومة، فإن تعاظم نفوذه قد يُعرّض المنطقة برمتها لاضطرابات غير مسبوقة.
وفي هذا السياق، شدد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال جولته الإقليمية الأخيرة، على قلق واشنطن وحلفائها من احتمالية وقوع ترسانة عسكرية متطورة في قبضة التنظيمات الإرهابية، في ظل تفكك المؤسسة العسكرية والأمنية، وعليه، تسعى الولايات المتحدة لتوظيف الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام لتحقيق هدفين استراتيجيين: أولهما مجابهة تنظيم "داعش" الذي يشكل تهديداً وجودياً للمصالح الغربية، ومنع انزلاق سوريا مجدداً إلى دوامة عدم الاستقرار، وثانيهما انتزاع تعهدات من هيئة تحرير الشام بعدم تشكيل الحكومة المستقبلية أي تهديد للأراضي المحتلة.
وفي حين تُبدي الولايات المتحدة والقوى الغربية ارتياحها لاستيلاء المعارضة على مقاليد السلطة في سوريا، إلا أن تباين الأيديولوجيات والتوجهات بين أطياف المعارضة، يثير مخاوف واشنطن وحلفائها حول احتمالية فرض قوانين إسلامية متشددة، أو التوجه نحو إقامة نظام ديمقراطي.
وفي حال سعت هذه الجماعات، التي ينحدر بعض عناصرها من صفوف "داعش"، إلى تطبيق رؤيتها المتشددة في هياكل الحكم لإحياء مشروع الخلافة، فإن ذلك سيشكّل تهديداً استراتيجياً للمصالح الغربية والكيان الصهيوني على وجه الخصوص.
وفي المحصلة، يمكن اعتبار الزيارات المكوكية للمسؤولين الأمريكيين إلى دمشق، جزءاً من استراتيجية متكاملة لإدارة الأزمة، وتوجيه دفة المشهد السياسي السوري بما يضمن المصالح الأمريكية ومصالح حلفائها في المنطقة.