الوقت - في حين اتسمت الاستراتيجية الأمريكية التقليدية في منطقة الخليج الفارسي، بمحاولات إحداث انقسام بين إيران ونظيراتها الخليجية لتبرير وجودها العسكري في هذه المياه الاستراتيجية، فإن مسار الأحداث في الآونة الأخيرة يشير إلى تبني الدول العربية نهجاً أكثر استقلاليةً عن السياسات الأمريكية.
وعقب الاتفاق التاريخي بين طهران والرياض، الذي شكّل منعطفاً حاسماً في تصفية الأجواء الدبلوماسية بين الدولتين، باتت الظروف مواتيةً الآن لتعزيز أواصر التعاون في المجالات الأمنية بين الجمهورية الإسلامية والمملكة.
وفي هذا السياق، قام الفريق أول الركن فياض بن حامد الرويلي، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة السعودية، بزيارة رفيعة المستوى إلى طهران يوم الأحد الماضي، حيث عقد لقاءً مثمراً مع نظيره الإيراني، اللواء علي باقري، رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، وعقب الترحيب الحار بالوفد السعودي الرفيع، صرّح اللواء باقري قائلاً: "نحن على قناعة تامة بأن آفاق التعاون بين القوات المسلحة لبلدينا تنطوي على إمكانات هائلة للتوسع والتعميق، نظراً لما يجمعنا من قواسم مشتركة وموارد استراتيجية وافرة".
وفي معرض تأكيده على تعزيز آفاق التعاون في المجالات الدفاعية وتبادل الخبرات في الميادين التدريبية والرياضية، صرّح اللواء باقري: "نتطلع بكل اهتمام إلى مشاركة القوات البحرية الملكية السعودية في المناورات البحرية الإيرانية المرتقبة في العام المقبل، سواء من خلال الوحدات البحرية العاملة أو بصفة مراقب"، وفي إشارة ذات مغزى إلى انعقاد الدورة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي في السعودية، أكد أن "هذا الاجتماع الاستثنائي يُجسّد خطوةً جديرةً بالإشادة في مسيرة تعزيز التضامن بين الأمة الإسلامية".
وقد تضمن جدول المباحثات الثنائية استعراضاً مستفيضاً لمسار العلاقات المتنامية، وأوجه التعاون الاستراتيجي في المجالين الدفاعي والعسكري، مع التركيز على سُبل تعميق أواصر التعاون وتطويرها، فضلاً عن تداول مستجدات القضية الفلسطينية وتداعياتها.
ومن جانبه، عبّر الفريق أول الركن الرويلي عن بالغ تقديره وامتنانه للحفاوة البالغة وكرم الضيافة الذي أبدته القوات المسلحة الإيرانية، مؤكداً على الأهمية القصوى لتعزيز مستويات التعاون في شتى المجالات بين القوات المسلحة في البلدين، وأضاف: "يُشكل اتفاق بكين التاريخي ركيزةً راسخةً لتعزيز التعاون الثنائي بين بلدينا، ونحن نستشرف في هذا الاتفاق فرصةً استراتيجيةً فريدةً".
كما أكد المسؤول العسكري السعودي الرفيع على المكانة المحورية والدور الاستراتيجي المؤثر، الذي يضطلع به البلدان في تعزيز التضامن بين الدول الإسلامية ودول المنطقة، مشدداً على ضرورة استدامة وتطوير قنوات التواصل السياسي والدفاعي بين البلدين، بما يخدم المصالح المشتركة والاستقرار الإقليمي.
انسجام السعودية مع محور المقاومة
في قراءة للمشهد الجيوسياسي الراهن، تكتسب الزيارة رفيعة المستوى للقيادة العسكرية السعودية، في خضمِّ التوترات الإقليمية المتصاعدة، أبعاداً استراتيجيةً متعددة المحاور، وفي هذا السياق، يُقدِّم الخبير في شؤون غرب آسيا، السيد جعفر قنادباشي، تحليلاً في حواره مع موقع "الوقت" قائلاً:
"تتجلَّى الأهمية الاستراتيجية لزيارة رئيس القوات المسلحة السعودية إلى طهران، في ضوء المكانة المحورية لإيران ضمن منظومة المقاومة، والمستجدات العسكرية المتسارعة في المنطقة، وتكتسب هذه الزيارة أهميةً مضاعفةً في ظل الهواجس الأمنية السعودية على الجبهة اليمنية، وباعتبارها قوةً نفطيةً عالميةً مؤثرةً، تسعى المملكة إلى إعادة صياغة سياسة التعايش الإقليمي، حيث عمدت، عقب التفاهمات مع إيران, إلى توسيع نطاق التعاون في شتى المجالات الاستراتيجية".
الانتقال من الهامش إلى قلب الأحداث
تستشعر المملكة العربية السعودية، بوصفها قوةً محوريةً في العالم العربي، مخاطر تراجع دورها الإقليمي خلال العام المنصرم، وفي هذا الصدد، يرى السيد قنادباشي أن محدودية التأثير السعودي في التطورات الإقليمية الراهنة، تُشكِّل دافعاً رئيسياً وراء هذا التحرك الدبلوماسي، مؤكداً:
"تتبوأ المملكة العربية السعودية مكانةً استثنائيةً في المنظومة الخليجية، غير أن المتغيرات الإقليمية المتسارعة، وتنامي نفوذ محور المقاومة، أفضيا إلى تراجع دورها المحوري، وفي المقابل، برزت قطر، رغم محدودية مساحتها الجغرافية، كلاعب إقليمي مؤثر بفضل علاقاتها الاستراتيجية مع حركة حماس، وعليه، تسعى المملكة جاهدةً لاستعادة دورها المحوري في خضم التطورات الإقليمية التي يتصدرها محور المقاومة، والهادفة إلى كبح جماح المغامرات الصهيونية والغربية في المنطقة، وتعمل فصائل المقاومة، من خلال عملياتها النوعية ضد الكيان الصهيوني، على إرساء دعائم الاستقرار الإقليمي وتحرير المنطقة من النفوذ الأجنبي، بما يُمكِّن دول المنطقة من تولي زمام أمنها الجماعي بصورة مستقلة".
ويقدّم الخبير قنادباشي رؤيةً حول التحول الجوهري في السياسة السعودية، مستكشفاً الترابط الدقيق بين الديناميكيات الداخلية والتوجهات الخارجية للمملكة:
"نشهد تحولاً براديغماتياً في الوعي الجمعي السعودي، حيث يتنامى رفض شعبي لانحياز المملكة إلى الجانب الخاطئ من التاريخ في خضم الاصطفافات الإقليمية الراهنة، فالمملكة، التي ارتبطت صورتها تاريخياً بكونها حليفاً استراتيجياً للغرب في المنطقة، تسعى الآن لإعادة تشكيل هويتها الجيوسياسية في المنظومة الدولية. إن الزيارة الاستراتيجية للقيادة العسكرية السعودية الرفيعة المستوى إلى طهران، تتجاوز كونها مؤشراً على توطيد العلاقات الثنائية، لتشكّل نقطة تحول محورية في تقليص الفجوة بين الرياض ومحور المقاومة، وعليه، فإن تعزيز العلاقات مع إيران، يمثّل خطوةً استراتيجيةً نحو إعادة تموضع المملكة في النسيج الإقليمي، وهو توجه يحظى بدعم شعبي متزايد، ويعكس فهماً عميقاً للمتغيرات الجيوسياسية".
ومن المهم استحضار أن المملكة العربية السعودية قد انتهجت، على مدى العقود الماضية، سياسات متماهية بشكل وثيق مع الاستراتيجية الأمريكية، متخذةً موقفاً مغايراً لمحور المقاومة في قضايا إقليمية محورية كالملف السوري واليمني واللبناني، وعليه، فإذا كانت القيادة السعودية تسعى بجدية لإرساء علاقات استراتيجية بنَّاءة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فيتعين عليها ترجمة هذا التوجه إلى خطوات ملموسة، متخذةً المسار الصائب.
ثم سلّط قنادباشي الضوء على الملف اليمني باعتباره أحد المحاور الرئيسية لزيارة الرويلي، مصرحاً: "أن التعاون الإيراني-السعودي من شأنه أن يمهّد الطريق نحو تهدئة الأوضاع في اليمن، ما سيؤدي إلى تبديد المخاوف السعودية على حدودها الجنوبية.
إن تعزيز قوة اليمن سيسهم حتماً في تقوية محور المقاومة، كما أن المشاورات الجارية في طهران قد تُفضي إلى نتائج إيجابية على الصعيد الإقليمي، لقد دأبت إيران على إرسال رسائل سلام لجيرانها من خلال مناوراتها العسكرية، وعليه فإن زيارة المسؤول العسكري السعودي قد تُعدّ بمثابة استجابة إيجابية للتحركات العسكرية الإيرانية، فضلاً عن كونها بوابةً للدخول في مجال التعاون السياسي الإقليمي".
ونظراً لما حققته أنصار الله من تفوق استراتيجي في البحر الأحمر خلال العام المنصرم، عبر هجماتهم الصاروخية على السفن والبوارج الأمريكية والإسرائيلية، فإن القيادة السعودية تسعى جاهدةً لتأمين مسارات تصدير نفطها البحرية، من خلال إنهاء الصراع في اليمن والتوصل إلى تسوية مع صنعاء.
وقد أثبتت التجربة الممتدة على مدار عقد كامل، أن استمرار الحرب في اليمن لن يخدم المصالح السعودية فحسب، بل قد يُلحق أضراراً جسيمةً بالاقتصاد السعودي يتعذر تداركها، وهو ما تجلى بوضوح في الهجمات المزدوجة التي شنتها أنصار الله على منشآت أرامكو في الأعوام السابقة، والتي تكبدت فيها المملكة خسائر فادحة.
زيارة الرويلي في إطار اتفاق بكين
في تحليل لموقع "الوقت"، قدّم الخبير الاستراتيجي في شؤون غرب آسيا، كامران كرمي، رؤيةً حول الأبعاد الاستراتيجية لزيارة رئيس هيئة الأركان العامة السعودية إلى طهران، حيث صرّح قائلاً:
"تندرج زيارة الرويلي ضمن المنظومة التنفيذية لاتفاقية بكين، والتي تتضمن في بنودها الأساسية إجراء لقاءات دورية رفيعة المستوى بين القيادات السياسية والعسكرية في البلدين، وما يُضفي أهميةً استثنائيةً على هذه الزيارة، التي أثارت تباينًا في المواقف الإقليمية والدولية، هو تنامي آفاق التعاون العسكري بين طهران والرياض في هذه المرحلة الحساسة، ما قد يُفضي إلى مكاسب استراتيجية على المديين القريب والمتوسط.
فعلى الصعيد العاجل، تتطلع المملكة إلى الاستفادة من النفوذ الإيراني لدى أنصار الله في البحر الأحمر، لضبط إيقاع التحركات اليمنية، وفي المقابل، فإن نجاح المساعي الإيرانية في استقطاب السعودية نحو المشاركة في التحالف البحري والمناورات العسكرية المشتركة، سواء الثنائية أو متعددة الأطراف، سيشكّل مكسباً استراتيجياً لطهران في المشهد الراهن".
وأردف كرمي، مسلطاً الضوء على الأولويات السعودية، قائلاً: "من المنظور الاستراتيجي، تجد المملكة نفسها في موقف يستدعي التعاون الوثيق مع طهران، وخاصةً في إطار مساعيها لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي اللازم لتنفيذ رؤية 2030، ومنذ إعادة إحياء القنوات الدبلوماسية، نشهد تطوراً منهجياً في العلاقات وفق خارطة طريق محددة المعالم، ورغم أن مستوى التعاون لم يرتقِ بعد إلى سقف تطلعات الجمهورية الإسلامية، إلا أن مسارات التعاون تمضي قُدماً وفق الأطر المتفق عليها.
وفي ضوء المساعي السعودية للإحكام الأمني على البحر الأحمر، نظراً لمحوريته في المنظومة الاقتصادية المستقبلية للمملكة، تبرز الحاجة الملحة للتنسيق مع الجمهورية الإسلامية لاحتواء العمليات البحرية لأنصار الله، بيد أنه من السابق لأوانه الجزم بأن التفاهمات الثنائية بين طهران والرياض، ستُفضي حتماً إلى تقليص العمليات البحرية لأنصار الله".
إمكانيات التعاون في المجال التسليحي
يُشكّل تعزيز المنظومة الأمنية المشتركة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول العربية، منعطفاً استراتيجياً نحو تخفيف حدة التوترات وإرساء دعائم الاستقرار الإقليمي.
فعلى مدى العقود المنصرمة، أدى الحضور الأمريكي المكثف في منطقة الخليج الفارسي، إلى زعزعة استقرارها وتقويض أمنها، بيد أن القيادات العربية قد توصلت إلى قناعة راسخة، مفادها بأن الوجود الأمريكي لم يُثمر سوى عن حالة من عدم الاستقرار والاضطراب الأمني.
لقد دأبت إيران على التأكيد على أن وجود القوى الأجنبية في المنطقة، يُعدّ عاملاً محورياً في تأجيج الأزمات، مشددةً على أن مسؤولية تأمين المنطقة تقع حصراً على عاتق دول الخليج الفارسي ذاتها، في حين كانت الأنظمة العربية تنظر إلى الدور الأمريكي باعتباره ركيزةً جوهريةً لاستمرارية أنظمتها.
کذلك، تُبدي إيران ترحيباً دائماً بتولي دول الجوار مقاليد الأمن الإقليمي، وتسعى في الوقت الراهن لاستثمار فرصة التقارب السياسي بين طهران والرياض، لتدشين مرحلة جديدة من التعاون العسكري المشترك.
تمتلك كل من إيران والسعودية، بوصفهما قوتين إقليميتين رئيسيتين في الخليج الفارسي، قدرات عسكرية متطورة يمكن من خلال تضافرها معالجة العديد من التحديات الأمنية، التي برزت خلال العقد المنصرم، فإيران، التي تُصنَّف كإحدى القوى العالمية المتقدمة في مجال تصنيع المنظومات الصاروخية والطائرات المسيّرة، بمقدورها نقل هذه التقنيات المتطورة إلى الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، وفي حين أبرمت المملكة ودول خليجية أخرى اتفاقيات لاقتناء طائرات مسيّرة من تركيا والكيان الصهيوني، تستطيع إيران - رهناً بموافقة الجانب العربي - توفير هذه المنظومات التسليحية المصنعة محلياً بتكلفة اقتصادية أكثر جدوى.
لقد برهنت إيران، من خلال مشاركتها في مكافحة الإرهاب في سوريا والعراق، على استعدادها التام لمدّ يد العون لجيرانها دون مقابل، وإتاحة خبراتها المتراكمة لحلفائها، وينسحب هذا الموقف على المشيخات الخليجية أيضاً، حيث تؤكد طهران جاهزيتها لتقديم الدعم اللازم متى استدعت الحاجة.
کما انتهجت إيران سياسةً ثابتةً نحو خفض التوتر مع الدول العربية، وقدّمت براهين ملموسة على نواياها الحسنة في هذا المضمار، واليوم، بات الأمر منوطاً بالقيادات العربية لاتخاذ القرار الاستراتيجي للانخراط في منظومة تعاون مشترك، تكفل إعادة الاستقرار والأمن إلى منطقة الخليج الفارسي.