الوقت – لقد تحولت الحرب في غزة إلى متاهة استراتيجية تُرهق حكومة الحرب الصهيونية، حيث يتآكل رصيد تل أبيب التفاوضي مع كل يوم يمر، وتتضاءل فرص الخروج بأقل التكاليف من هذه المواجهة المصيرية.
وما يُفاقم من حدة المأزق الراهن، أن الرهان على الوساطات الإقليمية - والذي كان يُمثّل طوق نجاة محتملاً للكيان الصهيوني في ظل المستنقع العسكري الحالي - قد تبدد بفعل التعنت الإسرائيلي وسياساته غير المحسوبة.
وفي تطور لافت، تواترت الأنباء حول اتخاذ دولة قطر قراراً بالانسحاب من دورها كوسيط في مفاوضات وقف إطلاق النار، وعلى الرغم من نفي السيد ماجد الأنصاري، الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية، لهذه التقارير مساء السبت الماضي، إلا أنه أكد تعليق جهود الوساطة في المرحلة الراهنة.
وفي تصريحات لوكالة الأنباء القطرية (قنا)، أوضح الأنصاري: لقد أحاطت دولة قطر كل الأطراف علماً قبل عشرة أيام، خلال المساعي الأخيرة للتوصل إلى تفاهمات، بأنها ستضطر إلى تعليق مساعيها الوساطية بين حركة حماس والجانب الإسرائيلي، في حال تعذر التوصل إلى اتفاق في هذه الجولة، وستستأنف دولة قطر جهودها الدبلوماسية حين يُبدي الطرفان استعداداً حقيقياً وإرادةً جادةً لوضع حد لهذه الحرب المدمرة.
ونفى الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية القطرية نفياً قاطعاً ما تناقلته وسائل الإعلام حول وضعية مكتب حماس في الدوحة، وأكد في تصريحات رسمية أن المنطلق الاستراتيجي لوجود مكتب حماس في دولة قطر، يتمثل في كونه قناة اتصال حيوية بين الأطراف المعنية، وقد أثبتت هذه القناة فعاليتها في مراحل سابقة، حيث أفضت إلى تحقيق هُدن، وساهمت في تثبيت الاستقرار، وأثمرت عن صفقات تبادل للأسرى.
وفي ظل الدور الفاعل الذي اضطلعت به الدبلوماسية القطرية في إنجاز اتفاقيات وقف إطلاق النار في غزة خلال العام المنصرم، يطرح تعليق وساطتها تساؤلات جوهرية حول مآلات المشهد العسكري في غزة، وتداعيات هذا المنعطف الدبلوماسي على موازين القوى، ولتفكيك هذه المعادلة، يتعين إجراء تقييم شامل للمشهد السياسي والأمني لكلا الطرفين.
المؤشرات الاستراتيجية تنذر بمأزق صهيوني متفاقم
على الرغم من حجم الدمار الهائل الذي ألحقه الكيان الصهيوني بقطاع غزة على مدار الثلاثة عشر شهراً المنصرمة، مستنداً إلى ترسانته العسكرية المتطورة والدعم الغربي غير المحدود، إلا أن المعطيات الراهنة تشير إلى حاجة ملحّة وغير مسبوقة لديه لتحقيق اختراق تفاوضي ووساطة فاعلة كالوساطة القطرية، وذلك في ضوء التعقيدات الميدانية والسياسية المتصاعدة في الأراضي المحتلة.
وفي مفارقة لافتة، يجد نتنياهو نفسه في مأزق دبلوماسي خطير، بعدما راهن في الأشهر الماضية على تفوقه العسكري المزعوم، وحاول انتزاع تنازلات جوهرية من حماس عبر التلويح المتكرر بالانسحاب من المفاوضات، وتصعيد الضغوط عبر القناة القطرية، فمع تعليق الوساطة القطرية، فقدت حكومته المنفذ الدبلوماسي الحيوي الذي كان يتيح لها التواصل، وتمرير اشتراطاتها إلى حركة حماس.
تتجلى في الأفق بوادر استياء قطري جراء محاولات "إسرائيل" استغلال مساعي الدوحة الدبلوماسية لمصلحتها، وقد أبدى الأنصاري تحذيراً صارماً مفاده بأن قطر لن تسمح بتحويل جهودها الوساطية إلى أداة للمساومة أو الابتزاز.
في خضم المعارك الدائرة، تجد تل أبيب نفسها في مأزق استراتيجي، إذ لم تحرز تقدماً ملموساً في مواجهة حماس، ومع تصاعد وتيرة المواجهات، يتكبد الكيان الإسرائيلي خسائر فادحة على الصعيدين الاقتصادي والبشري، ما يجعل من وقف إطلاق النار السبيل الوحيد للخروج من هذه الدوامة المضطربة.
وفي ظل تنامي الاحتجاجات العالمية المنددة بما يوصف بالإبادة الجماعية في غزة، وتصاعد موجة معاداة السامية في أوروبا، تتعالى أصوات الحكومات الدولية مطالبةً بتشديد الضغوط على تل أبيب، وقد بلغ الأمر حد مطالبة ما يزيد على خمسين دولة بوقف إمدادات الأسلحة للأراضي المحتلة، ما قد يضطر "إسرائيل" إلى إعادة النظر في استراتيجيتها الحربية.
داخلياً، يشهد الكيان الإسرائيلي حالةً من الغليان السياسي، حيث تتصاعد حدة الانتقادات الموجهة لنتنياهو بسبب إدارته المتخبطة للحرب، وتعدد الجبهات المفتوحة ضد الكيان، وقد بلغت هذه الأزمة ذروتها عقب إقالة وزير الحرب يوآف غالانت، الذي حمّل نتنياهو المسؤولية الرئيسية عن فشل المفاوضات مع حماس، ما وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي في موقف بالغ الحرج.
وفي سياق أوسع، يتجاوز الدور القطري مجرد الوساطة بالنسبة للكيان الصهيوني، فنتنياهو، في إطار "اتفاقيات أبراهام"، يتطلع إلى تطبيع العلاقات مع الدوحة، وعليه، فإن تعليق الوساطة القطرية من شأنه أن يقوّض مساعي "إسرائيل" الرامية إلى تحقيق طموحاتها الإقليمية، وتعزيز مكانتها الدبلوماسية في المنطقة.
وفي خضم هذا المشهد، تبرز الضغوط الأمريكية كعامل حاسم في معادلة الصراع، فقد كشفت صحيفة "هآرتس" النقاب عن عزم الرئيس جو بايدن على إسدال الستار على حرب غزة قبل انقضاء ولايته الرئاسية في يناير القادم، وفي السياق ذاته، أوردت "إسرائيل هيوم" أن واشنطن قد وجهت إنذاراً صارماً لنتنياهو، مفاده بأنها لن تحول دون صدور قرارات أممية إذا لم يبادر إلى وقف العمليات العسكرية في غزة.
وعلى الرغم من الدعم الأمريكي السخي الذي حظيت به "إسرائيل" على مدار العام المنصرم، إلا أن بايدن يسعى حثيثاً لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في الفترة المتبقية من ولايته، طامحاً إلى تسجيل إنهاء الحرب كإنجاز يُحسب لإدارته، وفي ظل هذه الظروف، يجد نتنياهو نفسه في أمس الحاجة إلى الوساطة القطرية أكثر من أي وقت مضى.
وما يزيد الأمور تعقيداً أن جيش الاحتلال يخوض معارك ضارية على جبهتين: في غزة وعلى الجبهة الشمالية مع حزب الله، حيث تكبد خسائر فادحة خلال الشهر المنصرم، واستمرار القتال على هاتين الجبهتين، من شأنه أن يضاعف الأعباء المالية والبشرية التي يتكبدها هذا الكيان، لذا، يتطلع نتنياهو إلى المساعي القطرية ليؤمن جبهته الجنوبية.
وثمة اعتبار آخر بالغ الأهمية، يتمثّل في افتقار تل أبيب لوسيط يضاهي قطر في قدرتها على إيقاف حرب غزة. فرغم الدور الوساطي المصري وجولات المفاوضات المتعددة في القاهرة بين وفد حماس وتل أبيب، إلا أن التحركات الأخيرة لجيش الاحتلال الرامية إلى بسط سيطرة دائمة على معبر رفح، قد أثارت حفيظة المسؤولين المصريين، ووفقاً لما تناقلته وسائل الإعلام العبرية، فإن الجيش الصهيوني يعكف على إنشاء قواعد عسكرية على محور فيلادلفيا المتاخم للحدود المصرية، في خرق سافر لبنود اتفاقية كامب ديفيد للسلام.
وفي هذا الصدد، أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" بأن "محور نتساريم سيتحول إلى مجمع عسكري إسرائيلي ضخم، يضمّ منشآت عسكرية ثابتة ومراكز احتجاز وقيادة، كما يعتزم جيش الاحتلال استحداث محور جديد يفصل شمال غزة عن باقي القطاع، مع التخطيط لإقامة محور ثالث في جنوب غزة".
وعليه، فإن الوجود العسكري الإسرائيلي المتنامي على الحدود المصرية، قد أثار موجةً من السخط والاستياء لدى المسؤولين في القاهرة، ما يجعل من المستبعد أن تضطلع مصر بدور الوساطة في ظل هذه المغامرات الجديدة للكيان الصهيوني.
فرصة للمقاومة الفلسطينية
في المشهد المقابل، يُمثّل تعليق المساعي الدبلوماسية القطرية - المُتأثر بالمطالب المُغالى فيها لنتنياهو - فرصةً سانحةً للمقاومة الفلسطينية لتوجيه أصابع الاتهام نحو الكيان الصهيوني، بوصفه المعرقل الرئيسي لمسار مفاوضات وقف إطلاق النار.
فبعد أن دأب نتنياهو على تصوير حركة حماس كحجر عثرة في طريق تبادل الأسرى، تجرّد الآن من هذه الذريعة، وبات المجتمع الدولي بأسره يُجمع على أن العقبة الجوهرية أمام إنجاح الاتفاقيات، تكمن في مواقف نتنياهو، لا في مواقف حماس.
وعلى النقيض من التصريحات المتواترة لمسؤولي تل أبيب، لا تزال حركة حماس تحتفظ بأوراق قوة استراتيجية، إذ تواصل توجيه ضربات موجعة لقوات الاحتلال، مع استمرار إطلاق الصواريخ بوتيرة محسوبة على المستوطنات الصهيونية، ما يُبرهن على فشل تحقيق الهدف الاستراتيجي لنتنياهو من عدوانه على غزة، ألا وهو تصفية هذه الحركة المقاومة، واستمرار هذا المسار، سيؤدي حتماً إلى تضخيم التكلفة الباهظة التي يتكبدها هذا الكيان، ما يجعل الرضوخ لوقف إطلاق النار المخرج الوحيد من هذا المأزق المستعصي، والذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر البوابة القطرية.
تحتفظ حماس في الوقت الراهن بعشرات الأسرى الصهاينة، وهي ورقة استراتيجية يمكن توظيفها كأداة ضغط فعّالة على الکيان، فعائلات الأسرى الصهاينة، التي كانت تعقد آمالاً عريضةً حتى الآن على استعادة ذويها من خلال الوساطة القطرية، تحولت آمالهم إلى سراب مع تجميد هذه الوساطة.
وحيث إن نتنياهو هو المتسبب الرئيسي في تفاقم هذه الأزمة، فمن المرجح أن تتصاعد وتيرة احتجاجاتهم ضد الحكومة، وعليه، فإن تنامي الاحتجاجات الداخلية سيضع حكومة نتنياهو المتطرفة تحت وطأة ضغوط متزايدة، لإغلاق ملف الأسرى في أقرب وقت ممكن بمعونة الوسطاء الإقليميين.