الوقت- منذ 7 أكتوبر يشهد العالم على جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها كيان الاحتلال بحق شعب فلسطين والتي أظهرت فيه استخفافها كاملاً بأرواح المدنيين مستخدمة مستويات متطرفة وغير مسبوقة من القوة غير المتناسبة وتتواصل الانتهاكات الإسرائيلية هذه بحق المدنيين في غزة، بدعم وصمت دولي غربي، ما سمح لجيش الاحتلال بتنفيذ عشرات المجازر بحق سكان أحياء كاملة في القطاع، وارتكب أوضح صور جرائم الحرب حسب وصف منظمات حقوقية، أبرزها التنكيل بالأسرى وتعريتهم، وقتل المرضى داخل المستشفيات، وخلّف العدوان الغاشم برًا وجوًا وبحرًا على سكان القطاع، أكثر من 20 ألف شهيد أغلبهم من النساء والأطفال، واستهدف البنى التحتية والمستشفيات والأحياء السكنية المشمولة بحماية القانون الدولي الإنساني بشكل ممنهج.
وبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر على العدوان الإسرائيلي الغاشم لم يعد خفياً على أحد أن الحرب الإسرائيلية بعدما فشلت في تحقيق هدفها في القضاء على المقاومة الفلسطينية تحولت لهدف آخر يتمثل في محاولتها ترك أضرار نفسية وجسدية دائمة على معظم سكان غزة وخلق ظروف تجعل القطاع غير قادر على الحفاظ على حياة إنسانية منظمة.
نطق ناطق من أهله
وفي هذا السياق قال المؤرخ الإسرائيلي راز سيغال، إنه لا حاجة لشهادة في الأدب المقارن من أجل فهم خطاب "الإبادة الجماعية" لـ"إسرائيل" وهي تواصل هجماتها على قطاع غزة.
جاء ذلك في حديث لسيغال، الذي يعمل بقسم أبحاث الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة ستوكتون الأمريكية، لقناة "Breaking points" على منصة يوتيوب.
وذكر المؤرخ الإسرائيلي، أنّ "إسرائيل "غارقة بعمق في خطاب الإبادة الجماعية، ويظهر ذلك في الإعلام والسياسة وفي الحياة العامة" بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأشار إلى وجود لافتات كبيرة على جسور الطريق السريع في تل أبيب تدعو لـ"تسوية غزة بالأرض وتدميرها".
وبيّن سيغال، إلى أن هذه الخطابات تستخدم بطريقة مباشرة وواضحة للغاية، وأضاف: "لا تحتاج إلى شهادة في الأدب المقارن لتفسير مثل هذه العلامات والتعابير". وأكد سيغال، أن "إسرائيل" قتلت أكثر من 20 ألف شخص في هجماتها على غزة، واستهدفت أيضًا المدارس والمساجد والمستشفيات والجامعات والكنائس والمناطق الزراعية.
وفي 12 ديسمبر/ كانون الأول، ألقى المؤرخ سيغال، كلمة في ندوة أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، قال خلالها "يجب أن تكون هناك نية وفعل لتسمية الأحداث بالإبادة الجماعية، في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها... التصريحات العديدة للقادة الإسرائيليين تكشف عن نية تدمير الشعب الفلسطيني".
وقد استقال مدير مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك، المحامي كريغ مخيبر من منصبه احتجاجا على الصمت تجاه "حالة نموذجية من الإبادة الجماعية في غزة"، كما حذر 9 خبراء من الأمم المتحدة من أن العنف العسكري الإسرائيلي ونوايا بعض المسؤولين في تل أبيب تشكل "تهديدا بالإبادة الجماعية ضد السكان الفلسطينيين".
من جانبها صرحت فرانشيسكا ألبانيز، مقررة الأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، بأن "الإبادة الجماعية" في قطاع غزة حاليا تحدث بإذن من العالم، كما حدث في سربرنيتسا ورواندا سابقا.
تقارير حقوقية
الإبادة الجماعية، التهجير القسري للمدنيين، الاستهداف العشوائي للمدنيين، استهداف الفئات المحمية في المدارس والمستشفيات والأطفال والنساء، فرض أحوال معيشية صعبة تشمل منع الماء والغذاء وقطع الكهرباء، واستخدام القنابل المحرمة دولية والمزيد كلها جرائم حرب اقترفتها وتقترفها آلة الحرب الإسرائيلية بحق شعب فلسطين وهذه الجرائم الست أو ما يزيد عليها يضع كيان الاحتلال الاسرائيلي والدول الغربية التي يمكن أن تشارك في عملياتها العسكرية تحت طائلة القانون الدولي.
وفي هذا السياق أصدر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تقريرا أوليا يوثق الاستهداف الإسرائيلي الممنهج لكل أشكال البنية التحتية المدنية بشكل شامل ومباشر في قطاع غزة في إطار الحرب المتواصلة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وخلص التقرير الذي يحمل عنوان (يوميات الحرب: الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة)، إلى أن "إسرائيل" استخدمت مستويات متطرفة وغير مسبوقة من القوة غير المتناسبة وأظهرت استخفافًا شبه كامل بأرواح المدنيين.
وأكد المرصد الأورومتوسطي، أن الجيش الإسرائيلي لم يدخر شيئًا تقريبًا في هجماته على قطاع غزة التي لا يمكن وصفها إلا بأنها إبادة جماعية في طور التشكل.
ويشير التقرير إلى بعض الأعمال الإسرائيلية الأكثر فظاعة في غزة على أساس يومي، والتي قد يصل بعضها إلى مستوى جرائم حرب بحق المدنيين وجرائم ضد الإنسانية.
وحسب توثيق فريق الأورومتوسطي فإن ما لا يقل عن 20031 فلسطينيا قتلوا في غزة، بينهم 8176 طفلا و4112 امرأة، بينهم 18460 مدنيا، فيما أصيب أكثر من 36350 آخرين، حوالي 70% منهم لكونهم أطفال ونساء، ويشمل هذا الرقم أكثر من 4800 شخص مفقود عالقين تحت أنقاض المباني المدمرة لعدة أيام وأسابيع، وتتضاءل فرص العثور عليهم أحياء.
وفقدت منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية أكثر من 100 موظف وطبيب وموظف مدني، استشهدوا جراء القنابل الإسرائيلية، كما قُتل 86 صحفيا، واستهدفتهم النيران الإسرائيلية في بعض الأحيان بشكل مباشر.
وذكر التقرير أنه خلال 48 يومًا من الهجوم المستمر، دمرت "إسرائيل" بشكل كامل 59,240 وحدة سكنية وألحقت أضرارًا جزئية بـ 165,300 وحدة أخرى، بالإضافة إلى ذلك، تم تدمير ما لا يقل عن 124 منشأة صحية (22 مستشفى، و55 عيادة، و46 سيارة إسعاف) كليًا أو جزئيًا.
وتضررت أكثر من 266 مدرسة، كما تم تدمير 140 مقراً صحفياً ومكتباً إعلامياً كلياً أو جزئياً، بالإضافة إلى 91 مسجداً و3 كنائس. تضررت 1040 منشأة صناعية، وقد نزح أكثر من 1,730,000 فلسطيني داخليًا في غزة، وهو ما يمثل أكثر من 75% من إجمالي السكان.
وقال رئيس المرصد الأورومتوسطي رامي عبده: إن حجم الدمار في غزة متعمد، وقد اعترف به المسؤولون الإسرائيليون علنًا، سواء كان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي يتفاخر بالتركيز على الأضرار وعدم الدقة، أو وزير الزراعة الذي وصف الحرب بأنها "نكبة" ثانية، أو عشرات النواب والوزراء الآخرين الذين يكررون هذا الهدف بشكل صريح".
وأضاف عبده: "من الواضح أن إسرائيل عازمة على تقديم خلق نموذج تحذيري من غزة، لإرهاب سكانها ومعاقبتهم وإذلالهم وسحقهم لجعلهم عبرة تجبر الفلسطينيين في جميع الأراضي المحتلة على الاستسلام".
وشدد المرصد الأورومتوسطي على أنه حتى لو انتهت الحرب اليوم، فسوف يستغرق الأمر عقودًا قبل أن تعود غزة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، والذي كان بالفعل بيئة غير صالحة للعيش وغير مستدامة.
وطالب المرصد الحقوقي في تقريره "إسرائيل" بالوقف الفوري لهجماتها والتراجع عن القرارات والإجراءات التي تشكل انتهاكات صارخة للقانون الدولي، بما في ذلك الحصار وأوامر الطرد الجماعي.
ودعا التقرير المجتمع الدولي إلى إدانة الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي بشكل لا لبس فيه ومواصلة الضغط على "إسرائيل" للامتثال الكامل لمعايير حقوق الإنسان، وإجراء تحقيق دولي مستقل عاجل في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المحتملة التي ارتكبت في غزة.
كما دعا المرصد الأورومتوسطي الاتحاد الأوروبي ومؤسساته المختلفة إلى ضمان عدم قيام أي مسؤول في الاتحاد بالإدلاء بتصريحات قد تشجع أو تتستر أو تبرئة ارتكاب جرائم الحرب في غزة.
الإبادة الجماعية
أما مصطلح "الإبادة الجماعية" فهو يعني حسب الاتفاقية الدولية الأولى لمناهضة الإبادة الجماعية، أيا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، مثل قتل أعضائها أو الإضرار الجسيم بسلامتهم الجسدية أو العقلية أو إخضاعها عمدا لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، أو التدابير الرامية إلى منع الولادات داخلها أو النقل القسري للأطفال من مجموعة إلى مجموعة أخرى.
وبناء على ما تم توثيقه ونقله يمكن استحضار عدة عناصر تثبت تنفيذ كيان الاحتلال الاسرائيلي للإبادة الجماعية في غزة، وذلك بالنظر إلى حجم القصف المدمر والاستهداف المباشر للفلسطينيين في منطقة محددة من خلال عمليات القتل والحصار والتعذيب الجماعي الجسدي والنفسي، وتدير الأوضاع المعيشية بالقطع الكلي أو الجزئي للمياه والكهرباء والوقود والاتصالات، والمنع الكلي أو الجزئي لدخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، والهجمات على المستشفيات وسيارات الإسعاف ووفاة المرضى والأطفال بسبب استحالة علاجهم.
إثبات النية
ومع ذلك، لكي يتم الاعتراف بالإبادة الجماعية على هذا النحو، يجب إثبات نية ارتكابها، وغالبا ما يكون تحديد هذا العنصر هو الأصعب، لأنه سيكون من الضروري إثبات أن مرتكبي الأفعال المعنية كانوا عازمين على التدمير الجسدي لمجموعة أو جزء من المجموعة، ولذلك فإن السوابق القضائية تربط هذه النية بوجود خطة أو سياسة ترغب فيها الدولة أو الكيان.
ويعتبر بعض الحقوقيين أن التصريحات الإسرائيلية الرسمية والدعوات الصريحة للانتقام والقتل ضد الفلسطينيين –باعتبارهم فلسطينيين- تعد قرارات واضحة لتعزيز حصار غزة بإدراج مواد ممنوع دخولها، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مع العلم أن لا حياة ممكنة دون هذه المواد (الماء والكهرباء والوقود وغيرها)، كما أن تنفيذ كل ذلك من قبل الجيش الإسرائيلي، يثبت الرغبة في الإبادة والانتقال من الإعلان إلى التنفيذ.
تاريخ حافل !
لم ترتبط الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني بالعام الذي ودعناه، بل شكلت الإبادة سلوكا ثابتا في الممارسة الإسرائيلية منذ الإعلان الظالم عن تأسيسها عام 1948، إذ في هذا العام تحديدا حصلت النكبة الفلسطينية الأولى، والحال أنها كانت نكبة للعرب وجيوشهم المتآكلة، وتجددت سنة 1967، حين احتلت "إسرائيل" أجزاء استراتيجية من أراضي الدول المجاورة لها (مصر، الأردن، وسوريا، علاوة على فلسطين)، دون نسيان عمليات التهجير الجماعي للفلسطينيين على فترات متتالية.
بل حتى قبل هذا التاريخ عملت العصابات الصهيونية على إبادة وتقتيل وتهجير قرى وبلدات فلسطينية كاملة، وأحلت محلها تجمعات لمستوطنين يهود خططت لتهجيرهم من عدة أنحاء من العالم.
ومن أبرز الأمثلة على جرائم الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ما وقع في حرب 1948 وحرب 1967، وكذا مذابح صبرا وشاتيلا ودير ياسين والطنطورة ومذبحة خان يونس وكفر قاسم ومجزرة الحرم الإبراهيمي ومذبحة مخيم جنين.
كما أمعنت "إسرائيل" في الإبادة الجماعية للفلسطينيين في سلسلة من الاعتداءات التي ارتكبتها في قطاع غزة في سنوات 2008 و2009 و2012 و2014 و2021.
و ها هو اليوم يشن كيان الاحتلال عدواناً غاشماً على أهالي غزة راح ضحيته حتى الآن أكثر من عشرين ألف شهيد و أصيب عشرات الآلاف في ظل عدوان ممنهج لإبادة الحجر و البشر.
ختام القول
الإبادة الجماعية ليست سوى التعبير الفعلي عن جوهر الكيان الإسرائيلي وتأسيسه، فوجوده بُني على الاستيطان في أبشع صوره، واستمراره وديمومته مرتبطان بالسعي المستمر إلى إبادة شعب يُراد محوُه، ليحل محله آخر تم استقدامه من الشتات، ومع ذلك، تُمثل الحرب الدائرة منذ شهور في غزة لحظة مختلفة، إن لم تكن فارقة، مقارنة مع سابقاتها من النكبات، ولا سيما من زاوية حجم الخسائر البشرية والمادية، وصمت العالم أمام ما يقوم به كيان الاحتلال.
وكشفت حرب الإبادة على غزة، من جانب آخر، أن العالم الذي يتمُ التغني بمبادئ وقواعد قانونه الدولي، من قبيل القانون الدولي الإنساني، وحقوق الإنسان بمختلف أجيالها، والعدالة والإنصاف، وحق الشعوب في العيش والحياة، وترسانة الاتفاقيات الخاصة بحماية الفئات الضعيفة من أطفال ونساء ومسنين ومرضى؛ ليست في النهاية سوى مجرد صكوك ورقية أمام ما يجري من حرب إبادة جماعية في غزة.