الوقت- في حين تتركز التحليلات و الأنظار على التداعيات العسكرية والسياسية والأمنية لعملية "طوفان الأقصى"، التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" ضد مواقع عسكرية ومستوطنات إسرائيلية في محيط قطاع غزة، يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وما خلفها من عدوان إسرائيلي على هذا القطاع، تتعاظم آثار الحرب الاقتصادية، وخصوصًا بالنسبة إلى كيان الاحتلال الاسرائيلي؛ وحسب مؤشرات الأسواق المالية ـ وفقا للصحف الإسرائيلية التي نشرت تقارير المؤسسات المالية ـ فقد تراجعت العملة الإسرائيلية (الشيكل) بشكل حاد إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من 8 سنوات ـ منذ عام 2015 -
اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي قبل طوفان الأقصى
عندما انطلقت الأزمة الحالية، يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لم يكن قد مضى سوى عامين على جائحة فيروس كورونا، التي أفضت إلى أول انكماش اقتصادي يتعرض له الاقتصاد الإسرائيلي منذ انتفاضة الأقصى عام 2000، وقد أطلقت حكومة الاحتلال الصهيوني مجموعة حزم إنعاش اقتصادية بتكلفة بلغت نحو 50 مليار دولار؛ ما أفضى إلى عجز قياسي في ميزانيتها، وارتفاع مديونيتها إلى نحو ثلاثة أرباع حجم اقتصادها الكلي، وبتدخل حكومي محدود، تمكّن الاقتصاد الإسرائيلي خلال العامين التاليين (2021-2022) من استعادة توازنه بالنظر إلى التنامي الملحوظ في الطلب المحلي بشقيه الاستهلاكي والاستثماري، وتحقيق نمو اقتصادي بلغ نحو 8.6 في المئة و6.5 في المئة، على التوالي، وهي معدلات مرتفعة عمومًا، مقارنةً بأي اقتصاد آخر في هذه الفترة، وبناءً على ذلك، استعادت المالية العامة لحكومة الاحتلال عافيتها وبدأت مؤشراتها في التحسن، ولا سيما حجم الدين العام منسوبًا إلى الناتج المحلي الذي عاد ليستقر عند مستويات مقاربة لما قبل الجائحة، وفي مقابل ذلك، كانت التقديرات الخاصة بالاقتصاد الإسرائيلي، خلال العامين الجاري والمقبل، وفقًا لمعطيات ما قبل الحرب، تشير إلى عودته إلى النمو وفقًا لمساره الطبيعي، في حدود 3 في المئة سنويًّا لكن سارت الرياح بما لا تشتهي السفن وجاءت عملية طوفان الأقصى لتغير المسار، حيث قامت وكالات التصنيف الائتماني العالمية من تعديل النظرة المستقبلية إلى الاقتصاد الإسرائيلي من "مستقر" إلى "سلبي".
خسائر تتوالى على قطاع المال
تُعدّ العُملة الإسرائيلية (الشيكل)، التي كانت ترزح تحت وطأة الضغوط المرتبطة بأزمة "الإصلاحات القضائية"، والاحتجاجات التي أعقبتها منذ بداية العام الجاري، الأكثر تأثرًا بعملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فمنذ اندلاع العملية خسر الشيكل أكثر من 5 في المئة من قيمته الدولارية، وبلغ أدنى مستوياته في ثماني سنوات، على الرغم من التدخل المباشر لبنك إسرائيل (البنك المركزي) وضخه لنحو 30 مليار دولار لاحتواء الطلب المتزايد على الدولار والحيلولة دون تدهور أكبر لسعر صرف الشيكل.
كما تراجعت البورصة في تل أبيب بشكل كبير وتكبد قطاع البنوك النسبة الأكبر من الخسائر في التداولات ناهزت 22% وسط عمليات بيع واسعة، إذ تراجعت أسعار أسهم أكبر خمسة بنوك بنسبة 20 في المئة، وهي أكبر نسبة تراجع منذ جائحة كورونا. وبذلك، تُقدر خسائر رأس المال في سوق البورصة منذ اندلاع المواجهات في غزة بأكثر من 20 مليار دولار وجاءت هذه الخسائر مدفوعة بارتفاع حدة المخاطر المستقبلية المحتملة وتنامي حالة عدم اليقين المرتبطة بالأوضاع الأمنية والاقتصادية في "إسرائيل"، علما أن بورصة الاحتلال قد واجهت الكثير من الصعوبات منذ بداية السنة الحالية بسبب ضعف التداولات عقب خطة تعديلات القضاء والاحتجاجات التي صاحبتها عندما حاولت الحكومة الإسرائيلية إقرارها من الكنيست.
خسائر قطاعات التكنولوجيا العالية
تواجه "إسرائيل" ـ أيضا ـ الخسائر المتوقعة في هذا القطاع، نتيجة اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي الكبير على قطاعات منتجة للتكنولوجيا العالية وعلى عمالة عالية التأهيل التحق قسم منها بقوات الاحتياط وقد يحاول قسم منها الهروب إلى الخارج حيث تم سحب 300 ألف احتياطي واحتياطية إلى الجيش، وهو الأمر الذي سيؤثر بشكل قد يكون خطيرا على أداء الشركات التي يعملون بها، وفي هذا السياق يرى الخبير الاقتصادي الألماني هنريك مولر في تقرير نشرته شبكة دويتشه فيليه الألمانية DW أن ضمان ازدهار قطاع التكنولوجيا العالية مرتبط ببقاء الكفاءات العالية في شركات هذا القطاع التي تتركز في تل أبيب وجوارها، وتمتلك معظم شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبيرة مكاتب إنتاج أو أبحاث وتطوير مهمة في "إسرائيل"، بما في ذلك مايكروسوفت وغوغل (ألفابيت) وآبل وأوراكل.
ولتوضيح الصورة أكثر للضرر المحتمل فإن إنتل على سبيل المثال كانت تنوي أن تستثمر 25 مليار دولار أمريكي في بناء منشأة لتصنيع الرقائق الإلكترونية تقع على بُعد 30 دقيقة فقط من الحدود مع قطاع غزة.
خسائر قطاع الطاقة
ارتفع سعر النفط بمقدار 5 دولارات للبرميل عالميا بعد التطورات الأخيرة، كما أعلنت شركة شيفرون الاثنين أنها أغلقت حقل الغاز الطبيعي تمار، وهو الحقل الذي يعد من أهم المصادر للغاز المستخدم في توليد الكهرباء والتصدير.
ومن المنتظر أن يؤدي استمرار إغلاق الحقل إلى انخفاض صادرات الغاز الإسرائيلية نحو مصر والأردن، بالإضافة إلى زيادة الضغط على سوق الغاز العالمي ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة.
خسائر قطاع السياحة
فيما يتعلق بقطاع السياحة فقد أصابه الشلل التام الذي فقد معظم زواره وسط موجات نزوح واسعة داخل "إسرائيل" وخارجها ووفق البيانات التي نشرها قسم الأبحاث في الكنيست الإسرائيلي فإن أكثر من 47 ألف غرفة في الفنادق ودور الضيافة يشغلها بالفعل الأشخاص الذين تم إجلاؤهم من الشمال والجنوب، حيث تم إجلاء حوالي 126 ألف إلى الفنادق، وبينما يبلغ احتياطي الغرف الفندقية ودور الضيافة المتاحة حاليا والتي يتوقع إشغالها في حالة إجلاء أشخاص آخرين حوالي 5 آلاف و222 غرفة .
الضرر الذي تعرض له قطاع السياحة والطيران الإسرائيلي هو ضرر فوري، فبعد قصف المقاومة لمطار بن غوريون في تل أبيب توقفت العمليات فيه بشكل كبير، وعلقت معظم شركات الطيران الأمريكية والكندية إلى جانب شركات أوروبية خدماتها وخصوصا بعد التحذير الذي أصدرته هيئة الطيران الفيدرالية بسبب الحرب الدائرة، كما دفعت بعدد من دول الخليج إلى منع مرور الرحلات الجوية الإسرائيلية من فوق أراضيها ما يفاقم من حجم الخسائر التي يتكبدها قطاع السياحة والسفر في "إسرائيل" .
من التحديات المالية إلى التداعيات الأوسع
من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية، في مسعى منها لاستعادة هيبة الردع، ترمي بكل ثقلها العسكري في عدوانها المستمر على قطاع غزة، غير مكترثة بتكلفته المالية، فهي تدرك أن فشلها في ترميم صورتها ستكون له تداعيات أشد خطورة؛ ليس فيما يرتبط بالجوانب الأمنية فحسب، بل سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا أيضًا. ولن تقتصر تبعات الحرب على أعبائها المالية المباشرة، بل ستمتد إلى الطلب المحلي أيضًا، بشقيه الاستهلاكي والاستثماري، الذي من المتوقع أن يشهد تراجعًا ملحوظًا؛ بسبب الخوف، وتراجع ثقة المستهلكين والمستثمرين، فالشواهد التي تبدو، من خلال ردود فعل المجتمع الإسرائيلي وحالة الارتباك الشديدة التي يعيشها، تؤدّي إلى استنتاج مفاده بأن الاقتصاد الإسرائيلي يتجه نحو أزمة عميقة.
ويُتوقع، وإن على نحو أقل حدة، أن تتراجع الصادرات السلعية، ويتفاقم العجز التجاري الإسرائيلي بسبب الاختناقات اللوجستية التي تفرضها المعطيات الميدانية للحرب، فضلًا عن الضغوط التنافسية الناجمة عن ارتفاع تكلفة التصدير المدفوعة بارتفاع تكلفة الشحن والتأمين والوقود؛ فقد ارتفع السعر العالمي للنفط بنحو 5 في المئة في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي، وتتأرجح أسعاره يومًا بعد يوم، على نحو أكثر ارتفاعًا من المستوى الذي كانت عليه قبل العدوان على غزة.
على المدى البعيد
بينما على المستوى البعيد، يتوقع أن تؤدي الحصيلة الثقيلة وغير المتوقعة لـ"طوفان الأقصى"، إلى هروب الاستثمارات الأجنبية خارج "إسرائيل"، وبلغ الاستثمار الأجنبي في "إسرائيل" عام 2022 نحو 28 مليار دولار، وساهم بنسبة 27% في الناتج الخام للبلاد، ومن المتوقع أن تفضي الحالة العميقة من عدم اليقين إلى تثبيط الاستثمار، والحد من مستويات الاستهلاك، وضرب قطاعَي السياحة والنقل وغيرهما من الخدمات، وستؤثر هذه الحالة كذلك في جاذبية الاقتصاد الإسرائيلي للعمالة الأجنبية؛ ما يعني أنه سيواجه سلسلة من الارتفاعات في الأجور بسبب نقص المعروض من العمالة، وخصوصًا إنْ أفضت هذه الحالة إلى هجرة عكسية إلى خارج فلسطين المحتلة.
ويُتوقَّع أن يكون لحالة عدم اليقين تأثيرات سلبية ملحوظة على تموضع المستوطنات وقاطنيها من المستوطنين، والاستثمارات بمختلف أشكالها، في المناطق الجنوبية المتاخمة لقطاع غزة والمناطق الشمالية المتاخمة للحدود مع لبنان؛ ما يؤدي إلى دفع السكان إلى التمركز في الوسط، وتفاقم الأزمة العقارية والسكانية وارتفاع تكاليفها، وستجد الحكومة نفسها مضطرة إلى تقديم حزم تحفيزية واسعة لإقناع المستثمرين والأفراد بالتوجه إلى الإقامة والاستثمار في المناطق الحدودية، وهو ما ستنجم عنه ضغوط طويلة الأمد على ميزانيتها العامة.
ختام القول، في قراءة لما ينتظر الاقتصاد الإسرائيلي في ظل المعارك بين القوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية والتأثيرات الممتدة والمتوالية التي ستجعل الاقتصاد الإسرائيلي يفقد توازنه فترةً طويلة من الوقت يمكن القول لا شكّ أن الضربة الفلسطينيّة لـ"إسرائيل" كانت موجعة وحتماً الولايات المتحدة ستساندها ماليا رغم الصعوبات التي تواجهها أمريكا، رغم ذلك لن تستطيع حكومة الاحتلال الإسرائيلي النهوض من "الفجوة" التي أوقعتها بها "حماس"، وأفقدتها هيبتها بالكامل ودمّرت لها كل أحلام التطبيع مع دول عربيّة.