الوقت – لا يزال المشهد في القارة الإفريقية محكوماً بتجاذبات واستقطابات داخلية وإقليمية وخارجية على ما يبدو أنها عصية على الحل، أقله إلى الآن، في ظل الانقسامات الراهنة ولا سيما بعد انقلاب النيجر في ال٢٦ من الشهر الماضي، بين مؤيد ومعارض للتدخل العسكري في إطار المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا " ايكواس"، والذي يقبع خلفها بالأساس الغرب والأمريكي الذي يرى "مستعمراته" تنتفض عليه وتنقلب لتأخذ بثأرها وثأر شعوبها وثرواتها التي نهبها المستعمر الغربي وتركهم رهينة للفقر والجوع والحرمان.
مستجدات المشهد في النيجر، وصول وفد جديد من مجموعة "ايكواس" إلى النيجر في محاولة لحل أزمة السلطة وتجنيب النيجر التدخل العسكري الخارجي، غداة ما أعلنته المجموعة عن تحديد يوم للتدخل العسكري في نيامي دون الإفصاح عنه، وذلك بعد فشل المفاوضات بينها وبين قادة الانقلاب، الأمر الذي ردّ عليه الأخير بالتهديد بالانسحاب من "ايكواس"، كما حذر سابقاً من أي ضربات عسكرية محتملة مهدداً بتوجيه تهمة الخيانة للرئيس المنقلب عليه محمد بازوم، ما يشير إلى تراجع مبدئي عن موضوع التدخل العسكري.
ورداً على التهديد بالتدخل العسكري في النيجر، عارضت جمهورية الرأس الأخضر وهي أحد أعضاء "إيكواس" إمكانية التدخل العسكري في النيجر، بشكل واضح، وأظهرت مالي وبوركينا فاسو المجاورتين للنيجر تضامنهما التام مع النيجر وأعلنتا أنهما ستقفان معها في وجه أي تدخل عسكري، أما الجزائر، عبرت عن أسفها الشديد لإعطاء الأسبقية للجوء إلى العنف عوضاً عن مسار الحل السياسي والتفاوضي في النيجر، مشيرة إلى قناعتها القوية بأن الحل السياسي التفاوضي لا يزال ممكناً، في حين جدد رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أول السعيد شنقريحة، خلال مشاركته عن بعد في قمة موسكو للأمن والسلام موقف بلاده الرافض للتدخل العسكري في النيجر مشدداً على ضرورة دعم الطرق السلمية لإيجاد حل للأزمة، بينما أعلنت المعارضة الغانية رفضها تدخل غانا العسكري في النيجر في إطار "ايكواس"، أما دولياً أعلنت موسكو أن الحل العسكري لتسوية الأزمة في النيجر قد يؤدي إلى مواجهة طويلة الأمد وزعزعة استقرار الوضع في منطقة الساحل والصحراء، مشددة على دعم جهود للخروج من الأزمة الحال.
المستعمر الغربي ومن خلفه الولايات المتحدة يدعمون التدخل العسكري مع فرض عقوبات على قادة الانقلاب، وهو أمر طبيعي انطلاقاً من إدراك عقلية المستعمر الذي اعتاد على صناعة الانقلابات لبث الفوضى والاضطراب، بينما انقلاب النيجر هو انقلاب لتصحيح المسار وبسط الأمن والاستقرار الذي ينعكس بالضرورة إيجاباً على القارة السمراء.
المستعمر يعيش تحديات حقيقية في إفريقيا لناحية خسارة موقعها الاستراتيجي ولا سيما موقع بعض دول إفريقيا على طريق الممرات الدولية المهمة، ولناحية خسارة موقعه لصالح قوى منافسة تسعى إلى إحباط كل المشاريع الغربية العدوانية في إفريقيا كما في آسيا وبالتحديد روسيا والصين التي تستدير الكثير من الدول الأفريقية نحوها باحثة عن نموها وأمنها واستقرارها والمحافظة على ثرواتها لأبنائها وهو ما تأمنه علاقات مع دول مثل روسيا والصين تسعى للفائدة والإفادة على قاعدة المنفعة المتبادلة.
تتوالى خسارات الغرب في إفريقيا وإذا كانت مالي البداية أو نقطة التحول في المسار فعلى ما يبدو أن النيجر لن تكون النهاية، وإذا تحدثنا عن خسارة فرنسا بالتحديد لكونها أبرز أطراف الاستعمار، فيكفي أن نذكر أن خسارة النيجر بالنسبة لفرنسا تعني خسارة ثلث واردات فرنسا من اليورانيوم أي فيما معناه خسارة عصب الصناعة وأهم الخدمات، فالنيجر تضيء فرنسا باليورانيوم، إذ تغطي 35% من الاحتياجات الفرنسية من هذه المادة، وتساعد محطاتها النووية على توليد 70% من الكهرباء.
في قلب المشهد، يوجد هناك مشاهد أبعد وأكثر واقعية، فالانطلاق من أن الصراع العالمي اليوم صراع على المعادن التي تتركز بصورة كبيرة في القارة الإفريقية ولا سيما التي تدخل في التكنولوجيا والصناعات الأساسية، يقودنا إلى إدراك مدى الأهمية الكبرى لإفريقيا لدى الغرب، إذ تشير التقارير والمعلومات إلى أن جنوب إفريقيا تمتلك لوحدها نصف احتياطي الذهب العالمي, لتكون القارة الإفريقية في الموقع الأبرز على خريطة الدول المنتجة للذهب، إلى جانب المعدن الأهم عالمياً وهو الكوبالت، قلب العالم التكنولوجي، كما تنتج ١٨% من إجمالي اليورانيوم في العالم.. و12% من النفط عالمياً، و 8% من إجمالي الإنتاج العالمي للغاز الطبيعي، وخسارة هذه الأرقام وغيرها بالنسبة للغرب أحد أبرز التحديات.
أفرز المشهد غداة الانقلاب في النيجر عن ميل إفريقي شعبي ورسمي للتحرر من سطوة الغرب وإذا سارت الأمور كما رسمها انقلاب النيجر سنشهد هزيمة مذلة لفرنسا باعتبارها واجهة احتلالية تعيدنا إلى مشهد الانسحاب الأمريكي المُذل من أفغانستان.
السؤال الذي يطرح هل ينجح التفاوض في حل الأزمة ورسم مسار جديد لما بعد الانقلاب دون العودة إلى ما قبل الانقلاب أي فيما معناه دون إعادة بازوم رجل فرنسا الأول في إفريقيا إلى السلطة، أم إن خيار التدخل العسكري سيتسيد المشهد بدفع غربي والأسباب سبق ذكرها.. أياً كان ما تحمله تطورات الأيام القادمة فالأساس الذي أثبته انقلاب النيجر المدعوم شعبياً أن إفريقيا تلفظ المستعمر وإن تعثرت خطاها قليلاً فالمشهد سيستكمل لاحقاً وهذا ما تشير إليه التحولات الدولية التي تسير بوتيرة متسارعة لغير المصلحة الغربية، كما أن شعوب القارة الإفريقية تدرك أنها فرصة تاريخية وستحسن استغلالها للوصول إلى نتيجة طرد المستعمر وطرد مصطلح "المستعمرات الفرنسية"، فإفريقيا لأبنائها ولأصدقاء وحلفاء حقيقيين وباختيار وقرار من أبناء القارة السمراء ثاني أكبر قارات العالم، وما رفع الأعلام الروسية في العديد من الدول الإفريقية إلا مؤشر على القرار والخيار بعيداً عن الاستعمار والمستعمرات والسطوة الغربية.
