الوقت - بينما اقتصرت عملية تطبيع علاقات الدول العربية مع الكيان الصهيوني على اتفاقيات "أبراهام" ذاتها، وخلافاً للتفاؤل لدى سلطات تل أبيب توقف قطار التطبيع سريعاً جدًا، الآن فإن نتنياهو ورفاقه الذين يشعرون بظل السقوط نتيجة استمرار الاحتجاجات الحاشدة من قبل المعارضة لعدة أشهر، يكافحون لإعادة تشغيل هذا القطار بأي طريقة ممكنة. وفي هذا الصدد، لجأ القادة الصهاينة إلى مبادرات جديدة لاختبار حظهم.
وفي هذا الإطار، ادعى شاي كوهين، رئيس مكتب اتصالات الکيان الصهيوني في المغرب، السبت الماضي، أن الشركة الصهيونية "إلبيت سيستمز"(التابعة لوزارة الحرب الصهيونية)، والمتخصصة في بناء الأنظمة العسكرية، تخطط لتأسيس فرعين لها في المغرب.
وقال شاي كوهين إن الغرض من إنشاء هذين الفرعين هو إنتاج أنظمة عسكرية، وسيتم افتتاح أحد هذين الفرعين في مدينة الدار البيضاء، ولم يذكر مزيداً من التفاصيل حول توقيت إنشاء هذين الفرعين ومهامهما.
اتسعت العلاقات بين المغرب والکيان الصهيوني بشكل ملحوظ في مختلف المجالات، ولا سيما في المجالين العسكري والأمني. ووقعت الرباط وتل أبيب العام الماضي اتفاقيةً بشأن إنشاء مصنعين لإنتاج الطائرات الانتحارية دون طيار في المغرب.
في السياق ذاته، وصل تساحي هنغبي، مستشار الأمن الداخلي الإسرائيلي، إلى الرباط الأسبوع الماضي واجتمع مع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة. كما التقى أمير أوحانا رئيس الکنيست الصهيوني رشيد الطالبي رئيس برلمان المغرب، ما يظهر أن تعزيز العلاقات السياسية والعسكرية يأتي على رأس أجندة الصهاينة.
كانت العلاقات الدبلوماسية بين الکيان الصهيوني والمغرب منخفضة المستوى في التسعينيات، لكن الرباط قطعت العلاقات مع تل أبيب بعد الانتفاضة الفلسطينية في عام 2000. ومع ذلك، في عام 2020، إلى جانب البحرين والإمارات، من خلال إدارة ظهورهم للقضية الفلسطينية، اتفقوا على التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي، وعمقوا علاقاتهم مع تل أبيب في السنوات الثلاث الماضية.
باستخدام صفقة الأسلحة هذه، يسعى المغرب إلى تطوير بنيته التحتية العسكرية وزيادة التعاون مع الکيان الصهيوني، وتسعى تل أبيب أيضًا لتوفير الموارد المالية بهذه الطريقة.
كذلك، يشارك الجيش الصهيوني لأول مرة في مناورات "الأسد الإفريقي 2023" متعددة الجنسيات، التي ستقام في المغرب اعتبارًا من 16 يونيو، وهو يظهر أن المغرب هو بوابة الکيان الإسرائيلي إلى شمال إفريقيا.
دبلوماسية الأسلحة، الاستراتيجية التقليدية لجذب الحلفاء
الکيان الصهيوني، الذي بنى أسس حكومته المزيفة على هياكل أمنية، يسعى دائمًا إلى جذب حلفاء جدد من أجل تحسين أمن حدوده والخروج من العزلة الإقليمية.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يدخل الكيان الصهيوني بشكل أساسي عبر البوابة الأمنية، ويحاول التظاهر بأن إقامة علاقات مع تل أبيب ستحسن العامل الأمني للحكومات المتحالفة. وبعبارة أخرى، يهدف إنتاج الأسلحة في المغرب إلى خلق حوافز وجاذبية للدول العربية، لتحفيزها على النظر في عملية تطبيع العلاقات.
بعد اتفاقيات أبراهام، وقّع الکيان الصهيوني أيضًا عقودًا لبيع أنظمة دفاعية للبحرين والإمارات، ورغم أنها لم تبصر النور عمليًا، لكنها كانت تهدف إلى تحفيز وترسيخ أسس التطبيع.
لكن هذه السياسة، التي تسمى أيضًا دبلوماسية الأسلحة، لها تاريخ طويل في تاريخ هذا الکيان الممتد لعقود، وبعبارة أخرى تشابكت مع هذا الکيان منذ إنشائه.
في عام 1933، تأسست شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية(IMI)، ولا تزال واحدةً من أكبر الشركات المصنعة للأسلحة في الکيان الإسرائيلي حتى يومنا هذا.
بن غوريون، أول رئيس وزراء للکيان الإسرائيلي، وبعد أن رأى عدم القبول الدولي لشرعية الکيان الجديد في الأمم المتحدة، قدم خطةً لإقامة علاقات تجارية ودبلوماسية وجذب الحلفاء في الأمم المتحدة: "يجب البدء من المحيط" والتواصل مع الدول التي تسعى إلى الاستقلال من الاستعمار، وخاصةً في إفريقيا.
وكان من أهم احتياجات هذه الدول، الأسلحة التي صدّرها الکيان الإسرائيلي من فائضه. وخير مثال على ذلك بورما(ميانمار الآن). ففي عام 1954، أصبحت بورما أول دولة تشتري أسلحة من الکيان الإسرائيلي، وبعد ذلك بعام، أصبح رئيس بورما أول رئيس يقوم بزيارة رسمية للکيان.
وقد أصبح الوضع في أوائل الثمانينيات بحيث شكلت صادرات الأسلحة 25 في المئة من صادرات الکيان الإسرائيلي. واليوم، يمتلك الکيان أكبر صناعة أمنية مرتبطة بالاقتصاد في أي دولة في العالم، ويصدر الأسلحة إلى 130 دولة مختلفة.
في التسعينيات، شهدت تجارة الأسلحة العالمية تغييرين أساسيين: بعد الحرب الباردة وانحسار سباق التسلح في العالم، قلّت الحاجة إلى السلاح، وبدأت أوروبا وأمريكا في تعزيز حقوق الإنسان والليبرالية في دول العالم الثالث، وخاصةً الدول الشيوعية السابقة. وكانت هذه فرصةً جيدةً للکيان الإسرائيلي للانخراط في تسليح أنظمة معظمها ديكتاتورية وغير ديمقراطية، وبالتالي إيجاد حلفاء جدد.
ومن الأدلة الواضحة على هذه القضية، عدم انضمام الکيان الإسرائيلي إلى معاهدة تجارة الأسلحة التي صادقت عليها 82 دولة، والتزمت بعدم بيع الأسلحة التي تستخدم في الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان، لأنه يخشى أن يؤدي التوقيع عليه إلى تعليق العلاقات التجارية والسياسية والأمنية مع الدول الأخرى.
خلال الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة أثناء الحرب في صربيا، أو جنوب إفريقيا أثناء الفصل العنصري، أو حتى في رواندا، صدّر الکيان الإسرائيلي أسلحةً إلى هذه البلدان، والتي استخدمت لقتل المدنيين والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية.
حتى في سبتمبر 2016، وفي ذروة مذبحة المسلمين، شقت الأسلحة الإسرائيلية طريقها إلى ميانمار، وهي الدولة التي تخضع لعقوبات من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منذ أوائل التسعينيات.
اليوم أيضًا، يستخدم الکيان الصهيوني تجارة الأسلحة والتدخل في الأزمات الإقليمية كأداة دبلوماسية: على سبيل المثال، بيع الأسلحة إلى رواندا ونيجيريا مقابل امتناعهما عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الاعتراف بفلسطين. أو في مثال آخر، تُمنح الأسلحة لرواندا وأوغندا بسعر مخفض مقابل قبول لاجئين من السودان وإريتريا.
زعزعة استقرار شمال إفريقيا
على الرغم من أن قضية تصنيع الأسلحة في المغرب، تشير على ما يبدو إلى أن الکيان الإسرائيلي يحاول مساعدة دول أخرى على تعزيز قدراتها الدفاعية، ولکن وراء هذه الإجراءات تكمن أهداف شريرة تصب في الغالب في مصلحة الصهاينة.
وقد أظهرت تجربة مساعدات الأسلحة التي قدمها الکيان الصهيوني للمناطق الأخرى في العقود الأخيرة، أن مثل هذه المساعدات لم تجلب الأمن فحسب، بل أدت أيضًا إلى تصعيد التوترات في مختلف المناطق.
وكان الکيان قد جرب سابقًا مثل هذا المشروع في القوقاز، وفي العقدين الماضيين أرسل الأسلحة بمليارات الدولارات إلى جمهورية أذربيجان، التي تخوض صراعًا مع أرمينيا حول منطقة ناغورنو كاراباخ، لدعم حليفه.
لكن هذا الدعم تسبب في اشتعال نيران الحرب في كاراباخ في السنوات الثلاث الماضية، ورغم المبادرات الدولية لم يتم العثور على علاج لها، ونيران الحرب في هذه المنطقة لا تزال مشتعلةً. وفي العام الماضي، أعلنت بعض المصادر أن باكو استخدمت طائرات إسرائيلية دون طيار في الصراع مع أرمينيا. وفي السنوات الثلاث الماضية، قامت تل أبيب بتصدير معدات عسكرية جديدة إلى باكو من أجل تعزيز موطئ قدمها في القوقاز.
والهدف الأكبر للکيان الصهيوني في اختراق القوقاز، هو الاقتراب من حدود إيران وجعل المنطقة غير آمنة، حتى يتمكن من مواجهة أعدائه من خلال خلق الأزمات وضمان أمن الأراضي المحتلة. والسبب الرئيسي للتوتر بين إيران وأذربيجان في العام الماضي، هو التحركات العدوانية الإسرائيلية التي تحاول دفع البلدين إلى الصراع وتنفيذ خططها الطموحة.
وفي أوكرانيا أيضًا، أدى إرسال الأسلحة الصهيونية بهدف مواجهة الجيش الروسي، إلى تصعيد التوترات بين تل أبيب وموسكو وتسبب في استمرار هذه الحرب لفترة طويلة، ويسعى الصهاينة إلى تأمين مصالحهم من هذه السوق الفوضوية.
ومع تجربة صنع الأزمة للکيان الصهيوني في جميع أنحاء العالم، يتم تنفيذ هذا السيناريو في المغرب أيضًا. فمن خلال إنتاج الأسلحة في المغرب، يحاول الکيان الصهيوني تعزيز موطئ قدمه في شمال إفريقيا وتنفيذ مؤامراته، وقد مهدت الرباط الطريق لتل أبيب إلی القارة السوداء.
وبما أن الخلاف بين المغرب والجزائر قوي حول "جبهة البوليساريو"، والسلطات المغربية تتهم الجزائر دائماً بدعم هذه المجموعة المتمردة، لذلك فإن تل أبيب تعرف جيداً أن إنتاج السلاح في المغرب سيزيد التوترات، ويعمق الخلافات بين البلدين المسلمين. لأن تعزيز القاعدة الدفاعية للمغرب سيجعلها تتخذ إجراءات ضد البوليساريو، الأمر الذي سيؤدي لاحقًا إلى إشعال الأزمة، والتي تتسبب في دخول الجهات الفاعلة الإقليمية على خط الأزمة.
وباعتبار أن الجزائر من ألد أعداء تطبيع العلاقات، وفي الجامعة العربية تحاول تحريض العرب ضد هذا الکيان، ومسؤولو تل أبيب ليسوا سعداء بهذا البلد، لذلك فهم يحاولون الاستقرار في شمال إفريقيا وجعل هذه المنطقة غير آمنة.
لقد اتهمت الجزائر مراراً المغرب باستهداف استقرار الجزائر، بفتح أبوابه للإسرائيليين وتحويل أراضيه إلى قاعدة للکيان الصهيوني، ومكان للتخطيط وتنفيذ الهجمات والاعتداءات المخطط لها ضد الجزائر.
لذلك، فإن الاتفاقات العسكرية بين الکيان الصهيوني والمغرب ستكثف سباق التسلح في شمال إفريقيا، وستزيد الجزائر حتماً من إنفاقها العسكري للتعامل مع النفوذ الزاحف للصهاينة حول حدودها.
وبما أن الأجواء في شمال إفريقيا ملتهبة للغاية بعد "الربيع العربي"، فإن تصرفات تل أبيب الاستفزازية في هذه المنطقة الحرجة، والتي تتأثر بانعدام الأمن في ليبيا ومؤخرًا السودان، ستزيد من زعزعة أمن البلدان الإفريقية، وتدخل هذه المنطقة في دائرة أخرى من المواجهة والصراع.
ويعتقد الخبراء السياسيون أن الکيان الصهيوني، من خلال نفوذه في المغرب قدر الإمكان، يسعى إلى خلق الفتنة والتفكك بين الدول العربية في شمال إفريقيا، من خلال الإخلال بتوازن القوى في هذه المنطقة وإجبارهم على التنافس بالسلاح مع بعضهم البعض.
إن مصلحة الكيان الصهيوني تکمن في خلق الأزمات وتوريط الدول الإسلامية من أجل تعزيز أمنه، لأن الوحدة بين المسلمين ستشدد حلقة الحصار عليه. وتأتي في هذا السياق نظرة الدول الخليجة إلى الکيان الإسرائيلي بتفوقه العسكري والتكنولوجي الهائل، كوسيلة للموازنة ضد إيران الصاعدة.