الوقت- أحياناً قد تكون لغة الأرقام أكثر دقة في كشف جرائم قوى البغي والعدوان من الغزاة والمحتلين، ولا سيما فيما يتعلق بالملفات الإنسانية المنسية كملف الأسرى والمختطفين والمفقودين، وأكثر تلك القوى بشاعة الكيان الصهيوني اللقيط، وما صاحب غرس غدته السرطانية في جسد أمتنا العربية من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، حظيت للأسف الشديد بشرعنة دولية مقيتة.
ويُعد ملف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الصهيوني من الملفات الأكثر إيلاماً ووجعاً، حيث حرص الكيان الغاصب على ممارسة كل ألوان العذاب ضد المعتقلين الفلسطينيين في السبعة العقود الماضية، وأحاط جرائمه بحزمة كبيرة من التشريعات والقوانين العنصرية، في ظل صمت وتواطؤ أممي مخزٍ، وحماية أميركية عاهرة.
ولم يرعَ الاحتلال الصهيوني حرمة شيئ، بل مارس عربدته حتى على المعتقلين المصابين بجروح بليغة، وأمراض مزمنة، والنساء والأطفال، وحرم المعتقلين من أبسط الحقوق التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية.
ورغم أن معاناة مقاتلي حركات التحرر أو جنود المعارك، انتهت أو ستنتهي إما بالتحرر أو بتفاهم الفرقاء، لكن معاناة الأسرى الفلسطينيين غصة مستمرة، لأنها ببساطة ترتبط باحتلال يأبى الرحيل.
وهي الأشد وطأة والأكثر وبالاً، لأنها تُمارس خارج نطاق القانون الدولي الإنساني أو ما يُسمى قانون حقوق الإنسان، فالكيان الصهيوني لا يُنكر فقط احتلاله للأراضي الفلسطينية، وعدم إقراره بتطبيق معاهدتي جنيف الثالثة والرابعة على تلك الأراضي والأسرى الفلسطينيين فقط، وإنما يتعامل مع الأسرى الفلسطينيين كسُجناء أمنيين، ضارباً عرض الحائط كل الاعتبارات الإنسانية والقانونية والأخلاقية.
والملفت في هذا الملف ليس فقط عدم امتثال الاحتلال للمواثيق الدولية الخاصة بالأسرى، وعدم قيام المؤسسات الدولية المعنية بمحاسبته وردعه عن غيه، بل فشل كل عمليات تبادل الأسرى في تحريرهم، لأن الاحتلال نجح في الانقلاب على ما تم التفاهم عليه في إطارها، كما فشلت المبادرات الفلسطينية السياسية لتحرير الأسرى، بعد توقيع اتفاق "أوسلو" في التخفيف من معاناتهم، وخصوصاً الذين قضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال، والمحكومين منهم بأحكام عالية، وحتى تلك التفاهمات التي نجحت في إطلاق سراح بعضهم سواء من قبل حزب الله أو حركة حماس أو السلطة الفلسطينية، فقد قوّض الاحتلال ذلك الإنجاز من خلال إعادة أسر من تحرر مرة أخرى، ودون سبب معروف، وهو ما يعرف بسياسة "الباب الدوار".
وحتى من نجحت السلطة الفلسطينية في إطلاق سراحهم، فقد تم ذلك للأسف ضمن معطيات حددتها سلطات الاحتلال، وفي ظل اعتقال الاحتلال مئات الفلسطينيين بشكل يومي، ومعظم من أُطلق سراحهم من ذوي الأحكام المخففة، أو من اقتربت مدة حكمهم على الانتهاء، وممن لا يصنفهم العدو من "ذوي الأيدي الملطخة بالدماء"، وليسوا أيضاً من مواطني القدس أو أراضي 48.
الأسرى بالأرقام
قالت مؤسسات فلسطينية مختصة بشؤون الأسرى إن الكيان الإسرائيلي يعتقل في سجونه نحو 4900 أسير، بينهم 700 أسير مريض، و200 امرأة وطفل، فضلا عن أكثر من ألف معتقل إداري.
كما يواصل الكيان احتجاز جثامين 12 أسيرا توفوا داخل السجون خلال العقود الماضية.
جاء ذلك في تقرير مشترك صادر عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وهي حكومية، ونادي الأسير الفلسطيني ومؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان ومركز وادي حلوة في القدس، وجميعها غير حكومية. وذلك بمناسبة يوم الأسير الفلسطين.
وذكرت المؤسسات الحقوقية أن عدد المعتقلين حاليا 4900، بينهم 31 أسيرة، و160 طفلا وطفلة تقل أعمارهم عن 18 عامًا، وأكثر من ألف معتقل إداري بينهم 6 أطفال وامرأتان.
وأضافت إن عدد الأسرى المعتقلين منذ ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993 يبلغ 23، كما أعيد اعتقال 11 أسيرا محررا في صفقة "وفاء الأحرار" (بين الكيان وحماس عام 2011) أبرزهم الأسير نائل البرغوثي "الذي يقضي أطول فترة اعتقال في تاريخ الحركة الأسيرة، والذي دخل العام الـ43 في سجون الاحتلال، قضى منها 34 عاما بشكل متواصل".
أما الأسرى الذين صدرت بحقّهم أحكام بالسجن المؤبد، فيبلغ عددهم -وفق التقرير الحقوقي- 554 أسيرًا.
والسجن المؤبد غير محدد المدة، وفي بعض الحالات يستمر الاعتقال بعد الوفاة، إذ يواصل الكيان احتجاز جثامين 12 أسيرا توفوا داخل السجون بين عام 1980 و2023.
وكشف التقرير عن وجود 700 أسير مريض "24 منهم مصابون بالسرطان، وبأورام بدرجات متفاوتة"، وحذر من "استمرار جريمة الإهمال الطبي/ القتل البطيء بحق الأسرى".
وخلال عام 2023، سجلت المؤسسات الحقوقية نحو 2300 حالة اعتقال بينها "أكثر من 350 طفلا غالبيتهم من القدس، و40 من النّساء والفتيات".
وقالت المؤسسات الفلسطينية إن المعتقلين يواجهون إلى جانب عائلاتهم "جرائم ممنهجة"، مشيرة إلى "تفشي سياسة العقاب الجماعي، والاعتداء على المعتقلين وعائلاتهم، والملاحقة المتكررة، والتهديدات، واستخدام العائلة كأداة للضغط على المعتقل، وجريمة التّعذيب في مراكز التّحقيق".
ولفت تقرير المؤسسات الفلسطينية إلى تصاعد سن قوانين وتشريعات "عنصرية تمس مصير الأسرى وعائلاتهم" خلال العام الجاري، تضاف إلى قوانين سابقة.
وذكر منها "مشروع قانون إعدام الأسرى الذين نفّذوا عمليات مقاومة ضد الاحتلال، إضافة إلى قانون سحب الجنسية والإقامة من أسرى ومحررين مقدسيين ومن الأراضي المحتلة عام 1948".
وقال إن الكيان يواصل عزل 35 أسيرا انفراديا "من بينهم أسرى مرضى يعانون من أمراض نفسية، وصحية مزمنة"، كما تواصل "عمليات الاقتحام لأقسام الأسرى، والتنكيل بهم ومنع زيارة عائلاتهم".
من جهة ثانية، قال نادي الأسير الفلسطيني في بيان له إن الأسير والقيادي في حركة الجهاد الإسلامي خضر عدنان (44 عاما) يواصل إضرابه المفتوح عن الطعام، رفضا لاعتقاله لليوم الـ70 على التوالي.
وذكر النادي أن عدنان، وهو من بلدة عرابة جنوبي جنين (شمال)، يمر بظروف "صحية صعبة للغاية"، وأعلن إضرابه فور اعتقاله في الخامس من فبراير/شباط الماضي.
ويوم 17 أبريل/نيسان 1974، أقر المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير)، خلال دورته العادية، ذلك التاريخ يومًا وطنيًا للوفاء "للأسرى الفلسطينيين" داخل السجون الإسرائيلية.
انتهاكات صحية شديدة بحق الأسرى الفلسطينيين
يعيش الأسرى الفلسطينيون في السجون الصهيونية، أوضاعاً استثنائية من الناحية الصحية، قل ما يعيشها أسرى أو معتقلون في مناطق أخرى، فهم يتعرضون إلى أساليب منهجية تؤدي حتماً لإضعاف أجساد الكثيرين منهم، وتمعن في استهدافهم من الناحية المعنوية؛ تتمثل في الحرمان من الرعاية الطبية الحقيقية، وفي أساليب القهر والإذلال والتعذيب، التي تتبعها طواقم الاعتقال والتحقيق والسجانون والحراسة، التابعون للعديد من الأجهزة الأمنية والعسكرية الصهيونية.
أساليب إضعاف الإرادة والجسد على السواء، ثنائية مأساوية متبعة في دولة تخال أن الديمقراطية مصانة في نظامها السياسي والقضائي، الذي أجاز التعذيب والضغط بحق الأسرى والمعتقلين، في سابقة غير معهودة على المستوى العالمي، ما يعد مخالفة للعديد من المعاهدات والمواثيق الدولية.
فعاليات تضامنية في الضفة وغزة
أحيا الفلسطينيون ذكرى "يوم الأسير" الفلسطيني بفعاليات تضامنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مؤكدين أن قضية الأسرى حاضرة باستمرار لحين إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية.
ويأتي إحياء الذكرى تنفيذا لإقرار المجلس الوطني الفلسطيني في 17 إبريل عام 1974 وخلال دورته الـ12 التي عقدت في العاصمة المصرية القاهرة، يوما وطنيا للأسرى عرف بيوم الأسير الفلسطيني.
وجرت إقامة وقفات في مراكز المدن بالضفة الغربية وقبالة مقرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر بدعوة من مؤسسات فلسطينية تعنى بشؤون الأسرى، رفع خلالها المشاركون الأعلام الفلسطينية ولافتات كتب عليها شعارات تضامنية مع الأسرى.
وأكد نائب رئيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) محمود العالول في كلمة خلال وقفة وسط مدينة رام الله ضرورة تسليط الضوء على قضية الأسرى ومعاناتهم ونضالاتهم، مشددا على أن القيادة تبذل كل الجهود للعمل على إطلاق سراحهم من السجون الإسرائيلية.
بدوره اعتبر عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واصل أبو يوسف أن الأسرى يشكلون "نموذجا للصمود والتحدي أمام ما يقوم به الاحتلال في محاولة لكسر إرادتهم، من خلال سياسة الإهمال الطبي المتعمد والعزل".
من جهته اتهم رئيس الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين أمين شومان، إدارة السجون الإسرائيلية بتجاوز كافة القوانين الدولية بحق الأسرى الفلسطينيين من خلال ممارسة "التعذيب النفسي والجسدي" بحقهم في ظل صمت دولي.
وأشار شومان في كلمة في ذات الوقفة إلى "وفاة 236 معتقلا داخل السجون منذ عام 1967، من بينهم 12 نتيجة الإهمال المتعمد بحقهم، ولا تزال جثامينهم محتجزة، بالإضافة إلى آخرين توفوا بعد تحررهم متأثرين بأمراض ورثوها عن السجون".
وفي الصدد أقامت وزارة التربية والتعليم فعاليات لإحياء الذكرى في مدارسها بهدف ما وصفته في بيان لها إبقاء "جذوة الوعي الوطني متقدة في قلوب الطلبة وتسليط الضوء على معاناة الأسرى خاصة الأطفال".
كما فتحت هيئة الإذاعة والتليفزيون الفلسطينية موجة مفتوحة لاستضافة الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم مؤخرا من السجون الإسرائيلية بعد قضاء أعوام عديدة فيها، وكذلك استقبال اتصالات من ذوي الأسرى للتضامن مع أبنائهم.
إلى ذلك قال رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية في بيان مقتضب بالمناسبة إن "الأسرى هم ضمير الحركة الوطنية الفلسطينية وكل يوم هو يوم للأسرى الذين يقبعون بسجون الاحتلال دفاعا عن قضيتنا العادلة، وحق شعبنا في الحرية والاستقلال".
واعتبر المجلس الوطني الفلسطيني أن قضية الأسرى على رأس أولويات القيادة الفلسطينية التي "لن تدخر جهدا أو وسيلة، ولن يهدأ بال حتى تبييض السجون الإسرائيلية من آخر أسرانا مهما بلغت التضحيات والضغوطات".
وقال القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل رضوان إن المقاومة الفلسطينية تضع قضية الأسرى على سلم أولوياتها، مشيرا إلى أن ما لدى المقاومة من إمكانيات قادر على "إرغام الاحتلال الإسرائيلية للاستجابة لمطالبها بصفقة تبادل تحرر فيها الأسرى".
الأسرى في السجون هم بوصلة المقاومة وهم الدافع للنضال في سبيل الحرية وتحرير الأرض وكسر السلاسل ولن تدخر المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها أي جهد في سبيل تحرير هؤلاء الأبطال من سجون المحتل.