الوقت -على مدى عدة عقود، كانت مصر تفكّر فقط في تعزيز العلاقات مع الغرب بشكل شامل وعلى جميع الأصعدة، وكانت تعمل على الابتعاد عن ايديولوجيتها الشيوعية والتوجّه نحو الشرق والتنافس مع "إسرائيل". لكن حدوث تغيير سياسي في هذا البلد، مع بداية الحركات الإسلامية التي أسفرت عن تشكيل حكومة محمد مرسي الإخوانية، ثم حكومة عبد الفتاح السيسي، كان له تأثير كبير في سياستها الخارجية.
وفي هذا السياق، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن مصر اشترت أسلحة من كوريا الشمالية وسمحت لدبلوماسيي هذا البلد استخدام سفارتهم في القاهرة كمقر لبيع الأسلحة العسكرية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط.
إن فهم أهداف مصر من اتخاذ هذا القرار، مسألة مهمة، في الوقت الذي فرضت الولايات المتحدة، باعتبارها حليف القاهرة، عقوبات شديدة على بيونغ يانغ ودعت إلى زيادة الضغط على هذا البلد، فضلاً عن تبعات هذه القضية على مستقبل العلاقات بين القاهرة وواشنطن.
موقع مصر الاستراتيجي
لأجل فهم سبب سياسات عبد الفتاح السيسي يجب في البداية الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والجيوسياسية لمصر. إن طريقة إدراك السيسي للوضع الراهن في مصر له ارتباط مباشر باتخاذ سياسات واستراتيجيات إقليمية مع كوريا الشمالية وروسيا والولايات المتحدة.
تتمتع مصر بمكانة استراتيجية خاصة وكانت دائماً تحظى بأهمية القوى العظمى النافذة في هذا البلد. لقد طرح زبيغنيو بريجنسكي الذي كان مستشار الأمن القومي الأمريكي خلال رئاسة كارتر، نظرية قوس الأزمات في الشرق الأوسط وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة.
من وجهة نظر بريجنسكي، إن قوس الأزمة يبدأ من إفريقيا ومصر ويمتد إلى الهند. ويعتقد أن المنطقة، نظراً لديناميات وتنقل القوات الداخلية، لديها القدرة المطلوبة على خلق أزمة لمصلحة الولايات المتحدة.
ولا تزال استراتيجية بريجنسكي تؤثر على السياسة الأمريكية تجاه مصر، وقد حاولت الولايات المتحدة التعامل مع مصر بحذر أكبر. كما أن مجاورة مصر للكيان الصهيوني وأهمية مؤتمر كامب ديفيد للولايات المتحدة وإسرائيل جعل البلدين حساسين بشكل خاص على التطورات الداخلية في مصر.
وبعد معاهدة كامب ديفيد، كانت مصر دائماً ثاني المستفيدين من المساعدات المالية الأمريكية حيث كانت تجني 1.3 مليار دولار سنوياً من الولايات المتحدة.
حاجة مصر إلى سياسات مستقلة ومركزية
بعد ثورة 2011، عانت مصر من تغيير في الهوية يرجع إلى صعود النخب الجديدة إلى سدة الحكم. وبعد تقلده مفاتيح الحكم في مصر، اتبع السيسي سياستين رئيسيتين: الأولى تحسين الوضع الاقتصادي في مصر والثانية تعريف هوية جديدة ومستقلة لها. وفي استطلاع أجرته مؤسسة غالوب، أظهر رغبة 82 في المئة من المصريين قطع المساعدات المالية الأمريكية عن مصر.
لذلك قرر السيسي اتباع سياسة مستقلة من خلال معرفة الرأي العام، ولكن المشاكل الاقتصادية في مصر كانت عقبة في طريقه، لذلك قرر تنويع الموارد المالية في مصر، ومن ناحية أخرى، سعى لتعزيز هوية مصر من خلال تبني سياسات وطنية أكثر على طريقة جمال عبد الناصر.
وقد قطعت الولايات المتحدة منذ الخريف الماضي، مساعدتها المالية عن مصر لأسباب بما في ذلك مطالب حقوق الإنسان. وقد أدرك عبد الفتاح السيسي، من خلال معرفته بالموقع الاستراتيجي لمصر، أنه لم يكن هناك حاجة لاتخاذ سياسة انفعالية تماماً تجاه الولايات المتحدة. لذلك لم يتغاضَ السيسي عن مكاسب العلاقات التجارية والاقتصادية مع كوريا الشمالية.
أهمية كوريا الشمالية في تحقيق التوازن لمصر
تقع مصر في منطقة متوترة. فمن ناحية، تحاول إسرائيل بالتوسع والتنافس العسكري، وشنّت حرباً باردة سرية ضد الدول العربية والبلدان المجاورة. ومن ناحية أخرى، فإن المملكة العربية السعودية، التي كانت في السابق مقتنعة بموازنة القوى فقط، أصبحت اليوم تبحث عن قيادة العالم العربي.
لقد اعتمدت مصر في السنوات الأخيرة على السعودية من الناحية المالية، الأمر الذي هدد مكانة مصر كبلد يتمتع بخلفية تاريخية وحضارية، فضلاً عن كونها موقعاً متميزاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إذا قبلت مصر بالمساعدات الأمريكية، ولم تنتهج إلا سياسات إصلاحية في البلد، فإنها ستخسر ميزان القوى لمصلحة إسرائيل والسعودية، وعاجلاً أم آجلاً، ستُفرض عليها إملاءات البلدين، اللذين لهما سجل سيئ في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
مصر تعارض السياسات السعودية في سوريا، وسياساتها في سوريا أقرب إلى روسيا وإيران. لقد حاول زعماء مصر السابقون دائماً تعزيز قدرة الصواريخ المصرية. ونظراً لأولوية أمن إسرائيل في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وقرب مصر من إسرائيل، فإن أمريكا لن توافق أبداً على أي جهد يعزز قدرة الصواريخ في مصر.
إن اعتماد مصر على الولايات المتحدة على مدى العقود الماضية، وسياسات الكيان الصهيوني في مصر، قد دفعت إلى نمو القدرة العسكرية لمصر بشكل غير متقارن بحيث إنها تواجه حالياً مأزقاً لأجل إرساء الأمن في شبه جزيرة سيناء.
لذلك اشترى السيسي نظاماً مضاداً للصواريخ من طراز S 300 من روسيا وحاول أيضاً شراء 50 طائرة عسكرية من نوع كا 52 يسمى التمساح، وسفينتين من ميسترال من فرنسا للابتعاد عن أمريكا ببطء، كما حاول في وقت واحد الاستفادة من قدرة كوريا الشمالية على تطوير صواريخ بلاده وتوفير قطع الصواريخ الضرورية من هذا البلد. كما تم توقيع نحو 20 اتفاقية بين القاهرة وبيونغ يانغ في مختلف مجالات الاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا والثقافة.
لقد أظهر المستثمر المصري، حسن نوايا مصر من الناحية الاقتصادية لكوريا الشمالية في مجال شركات الهاتف المحمول، بناء على طلب الحكومة المصرية، باستثمار أكثر من نصف مليار دولار في كوريا الشمالية، مقابل تعزيز التعاون الأمني بين كوريا الشمالية ومصر. وهذا يشير إلى أن مصر تعتبر أمنها واستقرارها أكثر أهمية من السياسات الأمريكية النفعية.
حذر متعدد الجوانب
من المؤكد أن عبد الفتاح السيسي لن يذهب بعيداً بما فيه الكفاية عن الولايات المتحدة بحيث يدفع أمريكا للتفكير بزعزعة الاستقرار في مصر، ولن يقترب كثيراً بحيث يكون مُجبراً على مطاوعة جميع سياساته مع الولايات المتحدة، وبالتالي عندما قاطعت الولايات المتحدة كوريا الشمالية، أعلن وزير الدفاع المصري صدقي صبحي، في لقاء مع نظيره في كوريا الجنوبية أنه سيقطع التعاون العسكري مع كوريا الشمالية.
لكن سفارة كوريا الشمالية الكبيرة في مصر قامت، في أبعاد أخرى، بأنشطة أوسع، وأصبحت بعض أجزاء أنشطة البلدين أكثر سرية. ومن ناحية أخرى، فإن وقف المساعدات المالية الأمريكية للقاهرة سيكون مصدر قلق لإسرائيل.
إسرائيل قلقة إزاء الجماعات المناهضة للصهيونية في مصر، ومن ناحية أخرى، فإن قطع هذه المساعدات قد يغير تماماً الاستراتيجية الأمنية المصرية، وأن تقوم القاهرة بتعاون عسكري سري مع كوريا الشمالية أو تبتاع معدات عسكرية من الدول التي يكون أمن إسرائيل لها غير مهم بقدر الولايات المتحدة.
إن طبيعة العلاقات الاقتصادية لمصر تقلل أيضاً من استمرار استراتيجية بعض السياسات المصرية. غير أن عبد الفتاح السيسي يعلم جيداً أن سياسة "أمريكا أولاً" في استراتيجيات ترامب قد تضعف البنى العسكرية لمصر.
كذلك، منذ عام 2011، استخدمت الولايات المتحدة استراتيجيات حذرة وبطيئة وطويلة الأمد في مصر، وخلال عهد السيسي، كان الغموض في الاستراتيجيات الأميركية أكثر وضوحا مما وفر المجال لتقترب مصر من كوريا الشمالية وروسيا وشراء أساطيل فرنسية حربية.
إن مصر على دراية تامة بأن أولوية الولايات المتحدة كانت دائماً مصالحها، ولا يوجد ضمان دائم للحفاظ على استقرار مصر من الولايات المتحدة، لذلك فإن عبد الفتاح السيسي ليس لديه الرغبة في الانفعال، وفي كل فرصة يمكنه أن يملأ فجواته الاستراتيجية من خلال علاقات مع دول مختلفة مثل روسيا وكوريا الشمالية.