الوقت- لم تعد الحرب الإسرائيلية على غزة تقتصر على القصف الجوي، وتدمير الأحياء، وتجويع السكان، بل امتدت إلى جبهة أكثر ظلمة وخفاءً: السجون ومراكز الاحتجاز السرية، حيث يتعرض الأسرى الفلسطينيون، وعلى رأسهم الأطباء والصحفيون، لأبشع صنوف التعذيب الممنهج، بعيدًا عن أي رقابة قانونية أو إنسانية، تحقيق شبكة الجزيرة الاستقصائي الأخير أعاد تسليط الضوء على هذا الجانب المسكوت عنه من الحرب، كاشفًا أن ما يجري ليس تجاوزات فردية، بل سياسة مدروسة تهدف إلى كسر المجتمع الفلسطيني عبر استهداف نخبه الحيوية.
الرداء الأبيض هدفًا عسكريًا
حسب تقرير الجزيرة، قُتل أكثر من 1500 من أفراد الكادر الطبي في غزة منذ بداية الحرب، بينهم عشرات الأطباء البارزين، بعضهم قضى تحت التعذيب داخل مراكز احتجاز إسرائيلية سرية، والبعض الآخر لا يزال مصيره مجهولًا، هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الخسارة البشرية، بل تكشف تحولًا خطيرًا في طبيعة الاستهداف الإسرائيلي، حيث لم يعد الطبيب أو المسعف شخصية محمية بموجب القانون الدولي، بل بات يُعامل كهدف عسكري مشروع.
قصة الجراح الفلسطيني المعروف الدكتور عدنان البرش تختصر هذا التحول، الرجل الذي أجرى عمليات جراحية في مستشفى الشفاء على ضوء هاتفه المحمول، وسط الحصار والقصف، لم يُقتل في غارة، بل اعتُقل، ونُقل بين السجون، وتعرض لتعذيب شديد انتهى بموته داخل سجن «عوفر» في أبريل/نيسان 2024، وحتى بعد موته، رفض الاحتلال تسليم جثمانه، في انتهاك صارخ لأبسط القواعد الإنسانية.
سدي تيمان: السجن خارج القانون
يتكرر في شهادات المعتقلين والجنود الإسرائيليين اسم سجن «سدي تيمان» في صحراء النقب، الذي تصفه منظمات حقوقية بأنه «غوانتانامو إسرائيل»، في هذا السجن، يُحتجز الفلسطينيون دون لوائح اتهام واضحة، ويُحرمون من التواصل مع محامين أو الصليب الأحمر، ويُجرَّدون من أسمائهم ليُختزلوا في أرقام.
اللافت في تحقيق الجزيرة هو شهادات غير مسبوقة من داخل المنظومة الإسرائيلية نفسها، طبيب إسرائيلي اعترف صراحة بمشاركته في ممارسات تنتهك أخلاقيات الطب، تحدث عن إجراء عمليات جراحية مؤلمة لمعتقلين فلسطينيين، بمن فيهم أطباء، دون تخدير أو موافقة، معتبرًا ذلك «وسيلة عقاب»، هذا الاعتراف لا يكشف فقط حجم الانتهاكات، بل انهيار المنظومة الأخلاقية التي يُفترض أن تحكم مهنة الطب.
التعذيب أداة سياسة
شهادة جندي إسرائيلي آخر، وردت في التحقيق، تكشف أن تعذيب الأطباء لم يكن تصرفًا فرديًا، بل أوامر مباشرة من قادة عسكريين، بذريعة أن «أطباء غزة يعرفون أماكن الأسرى الإسرائيليين»، هكذا، يتحول الطبيب من معالج للجرحى إلى مشتبه به دائم، وتصبح مهنته سببًا لتعذيبه لا لحمايته.
هذا النمط من السلوك يعكس استخدام التعذيب كأداة سياسية وأمنية، لا بهدف انتزاع معلومات فقط، بل لإذلال المجتمع الفلسطيني وكسر رموزه، فتعذيب طبيب بارز أو صحفي معروف يحمل رسالة واضحة: لا أحد محصن، ولا قيمة لأي صفة إنسانية أو مهنية.
الصحفيون… إسكات الشهود
إلى جانب الأطباء، يتعرض الصحفيون الفلسطينيون لنمط مشابه من الانتهاكات. كثيرون اعتُقلوا أثناء التغطية الميدانية، أو بعد إصابتهم، ونُقلوا إلى سجون سرية، حيث خضعوا للاستجواب والتعذيب. الهدف هنا لا يخفى: إسكات الشهود، وكسر الرواية الفلسطينية، ومنع توثيق الجرائم.
في هذا السياق، تصبح السجون الإسرائيلية امتدادًا لساحة المعركة الإعلامية، فكما تُقصف الأبراج الإعلامية في غزة، يُزج بالصحفيين في الزنازين، في محاولة لاحتكار السردية وطمس الحقيقة.
تدمير النظام الصحي من جذوره
يرى باحثون فلسطينيون أن استهداف الأطباء ليس «ضررًا جانبيًا» للحرب، بل سياسة طويلة الأمد لتدمير النظام الصحي في غزة، فخسارة طبيب متخصص تعني ضياع سنوات من التدريب والخبرة، وتأثيرًا يمتد لعقود، يمكن إعادة بناء المستشفيات، لكن لا يمكن تعويض الأطباء بسهولة، وخصوصًا في ظل الحصار ومنع السفر.
اعتقال أطباء مثل الدكتور محمد عبيد، واختفاء آخرين، ووصم مدير مستشفى كمال عدوان الدكتور حسام أبو صفية بـ«المقاتل غير الشرعي» وحرمانه من محاكمة عادلة، يعكس سعي الاحتلال إلى تفريغ غزة من كوادرها الطبية القيادية، وتركها بلا قدرة على التعافي.
صمت دولي يرقى إلى التواطؤ
رغم خطورة ما تكشفه هذه التحقيقات، لا يزال رد الفعل الدولي خجولًا، يقتصر على بيانات قلق لا تُترجم إلى إجراءات مساءلة حقيقية. لم تُفرض عقوبات، ولم تُفتح تحقيقات دولية مستقلة جادة، ولم يُجبر الاحتلال على الكشف عن مصير آلاف المعتقلين.
هذا الصمت يمنح "إسرائيل" غطاءً للاستمرار، ويحوّل القانون الدولي الإنساني إلى نص بلا أنياب، فحين يُعذَّب طبيب حتى الموت، ويُحتجز جثمانه، ولا يُحاسَب أحد، تصبح الجريمة قاعدة لا استثناء.
أكثر من سجون… حرب على المستقبل
ما يجري في السجون الإسرائيلية اليوم هو جزء لا يتجزأ من حرب الإبادة الجارية في غزة، إنها حرب لا تستهدف الجسد فقط بالقصف، بل تستهدف العقل بالاعتقال، والذاكرة بالتعذيب، والمستقبل بتصفية النخب، الأطباء والصحفيون ليسوا ضحايا عرضيين، بل أهدافًا مركزية في استراتيجية تسعى إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل.
في النهاية، قد تنتهي الحرب يومًا ما، وقد تُرفع الأنقاض عن المستشفيات، لكن آثار هذه الجرائم ستبقى عميقة، فقتل طبيب تحت التعذيب، أو كسر صحفي في زنزانة مظلمة، ليس مجرد جريمة فردية، بل جرحاً في الضمير الإنساني العالمي، لن يندمل إلا بالمحاسبة والعدالة.
