الوقت- في مشهدٍ يتكرّر بفظاعة تكاد تفقد الكلمات معناها، يواصل الاحتلال الإسرائيلي قصفه المتعمّد لمدارس النازحين ومراكز الإيواء في قطاع غزة، في خرقٍ فاضح لاتفاق وقف إطلاق النار، واستمرارٍ ممنهج لجريمة الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين، هذه المدارس، التي تحوّلت بفعل الحرب إلى ملاذٍ أخير لعائلات فقدت بيوتها وأمانها، لم تسلم من نيران آلة القتل الإسرائيلية، لتصبح ساحات للمجازر بدل أن تكون مساحات للحماية.
مدارس الإيواء… أهداف عسكرية في نظر الاحتلال
منذ الأسابيع الأولى للحرب، لم يعد استهداف المدارس التابعة لوكالة “الأونروا” أو المدارس الحكومية التي تؤوي النازحين حدثًا استثنائيًا، بل بات سياسة متعمّدة وممنهجة، فكل ضربة جديدة تؤكد أن الاحتلال لا يميّز بين موقع مدني أو عسكري، ولا يعترف بالحصانة القانونية للمرافق التعليمية والإنسانية، رغم وضوح النصوص في القانون الدولي الإنساني التي تحظر استهداف المدنيين ومراكز الإيواء.
المدرسة، التي يُفترض أن تكون رمزًا للحياة والمستقبل، تحوّلت في غزة إلى شاهدٍ دامغ على حجم الانهيار الأخلاقي والسياسي في سلوك الاحتلال، عشرات المجازر ارتُكبت داخل صفوف دراسية، في ساحات مدارس، وبين أروقة تحصّن بها أطفال ونساء وشيوخ هربوا من القصف، ليجدوا الموت يلاحقهم حيثما ذهبوا.
خرق متواصل لاتفاق وقف إطلاق النار
جاءت هذه الجرائم في سياقٍ أكثر خطورة، يتمثّل في خرق الاحتلال المتكرر لاتفاق وقف إطلاق النار المعلن قبل أكثر من شهرين، فبدل الالتزام بوقف العمليات العسكرية وحماية المدنيين، صعّد جيش الاحتلال من هجماته، مستهدفًا تجمعات النازحين بشكل مباشر، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 400 فلسطيني منذ الإعلان عن الاتفاق، وفق ما أكدته حركة المقاومة الإسلامية "حماس".
هذا السلوك يعكس استخفافًا إسرائيليًا كاملًا بالاتفاقات الدولية وبالوسطاء الضامنين لها، كما يكشف أن حكومة بنيامين نتنياهو لا ترى في وقف إطلاق النار سوى استراحة تكتيكية، تُستغل لإعادة فرض معادلات ميدانية جديدة على حساب دماء المدنيين.
“جريمة وحشية” بحق الأبرياء
وفي هذا السياق، أكدت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” أن “القصفَ المدفعي الذي نفّذه جيشُ الاحتلال الفاشي على مدرسةٍ تؤوي نازحين في حيّ التفاح شرقَ مدينة غزة، وما أسفر عنه من استشهاد عددٍ من المواطنين، معظمهم من الأطفال؛ جريمةٌ وحشية تُرتكب بحقّ المدنيين الأبرياء، وخرقٌ فاضحٌ ومتجدّد لاتفاق وقف إطلاق النار".
هذا الوصف لا يحمل طابعًا سياسيًا فقط، بل يعكس حقيقة ما يجري على الأرض: أطفال قُتلوا وهم نيام، عائلات أُبيدت كاملة، وأجساد صغيرة انتُشلت من تحت الأنقاض داخل مدرسة يفترض أنها آمنة، إن تكرار هذه المشاهد يجعل من الصعب فصلها عن سياق الإبادة الجماعية، حيث يتحوّل القتل إلى فعلٍ روتيني، وتُسقط فيه كل الخطوط الحمراء.
عرس يتحوّل إلى مجزرة
ومن أبشع صور هذا الإجرام، تحوّل أحد الأعراس في غزة إلى مجزرة دامية، بعد أن استهدف القصف الإسرائيلي مدرسة إيواء كانت تحتضن الفرح المؤقت لعائلة فلسطينية حاولت، وسط الركام والموت، أن تصنع لحظة حياة، دقائق قليلة كانت كفيلة بتحويل زغاريد الفرح إلى صرخات ألم، وأثواب العرس إلى أكفان، في مشهد يلخّص مأساة غزة التي لا يُسمح لها حتى بالحلم.
هذا القصف الهمجي لا يمكن فهمه خارج إطار العقاب الجماعي، ومحاولة كسر الروح المعنوية للفلسطينيين، وإيصال رسالة مفادها بأن لا مكان آمن في غزة، لا مدرسة، ولا مستشفى، ولا حتى مناسبة اجتماعية.
منع الإسعاف… جريمة مركّبة
ولم يتوقف الإجرام الإسرائيلي عند حدود القصف، بل تجاوزه إلى منع سيارات الإسعاف والطواقم الطبية من الوصول إلى أماكن الاستهداف، فقد شددت حركة “حماس” على أن الاحتلال “يُمعن في تعميق الكارثة الإنسانية عبر منع سيارات الإسعاف والطواقم الطبية من الوصول إلى أماكن الاستهداف لإسعاف المصابين، وعرقلة عمليات الإنقاذ، في سلوكٍ إجرامي يرقى إلى جريمةٍ مركّبة ويشكّل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني".
هذا السلوك يكشف نية واضحة في زيادة عدد الضحايا، وترك الجرحى ينزفون حتى الموت، وتحويل كل غارة إلى مجزرة مضاعفة، وهو ما يضع الاحتلال أمام مسؤولية قانونية مباشرة عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفق توصيفات خبراء القانون الدولي.
صمت دولي مريب
في مقابل هذا التصعيد الدموي، يبرز صمت دولي مريب، وعجز واضح عن محاسبة الاحتلال أو حتى الضغط الجدي عليه. فالمجتمع الدولي، الذي لا يتوانى عن إصدار البيانات في أزمات أخرى، يبدو مشلولًا أمام الجرائم الإسرائيلية، مكتفيًا بعبارات “القلق” و”الدعوة إلى ضبط النفس”، وكأن دماء الأطفال في مدارس الإيواء لا تستحق أكثر من ذلك.
هذا الصمت لا يمكن فصله عن الغطاء السياسي الذي توفره الإدارة الأمريكية لحكومة نتنياهو، سواء عبر الدعم العسكري أو الحماية الدبلوماسية في المحافل الدولية، ما شجّع الاحتلال على المضي قدمًا في سياساته دون خوف من المحاسبة.
مطالب للوسطاء والإدارة الأمريكية
انطلاقًا من ذلك، جدّدت حركة “حماس” مطالبها للوسطاء الضامنين للاتفاق وللإدارة الأمريكية “بالاضطلاع بمسؤولياتهم تجاه هذه الانتهاكات، والتدخل الفوري للجم محاولات حكومة مجرم الحرب نتنياهو فرضَ معادلاتٍ تتناقض مع مضمون الاتفاق، وتنقلب عليه بوضوح”. هذه المطالب لا تمثل موقفًا سياسيًا فحسب، بل تعكس حاجة إنسانية ملحّة لوقف نزيف الدم، وحماية ما تبقى من المدنيين، ومنع تحول مدارس الإيواء إلى مقابر جماعية.
غزة… الإبادة مستمرة
في المحصلة، ما يجري في غزة ليس مجرد “انتهاكات” أو “أحداث مؤسفة”، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى تفريغ القطاع من الحياة، عبر استهداف الإنسان في أضعف حالاته: وهو نازح، طفل، أو مدني احتمى بمدرسة، استمرار قصف مدارس الإيواء، وتحويل الأعراس إلى مجازر، ومنع الإسعاف، كلها حلقات في سلسلة الإبادة الجماعية التي تُرتكب على مرأى ومسمع العالم.
ويبقى السؤال الأخلاقي والسياسي مفتوحًا: إلى متى سيبقى المجتمع الدولي شاهدًا صامتًا على هذه الجرائم؟ وإلى متى ستُترك غزة وحدها في مواجهة آلة قتل لا تعرف إلا لغة النار؟
