الوقت- في السيناريو الافتراضي الذي تسلّم فيه أبو محمد الجولاني السلطة المؤقتة في دمشق بعد انهيار نظام الأسد، تبدو البلاد أمام مرحلة حسّاسة وتاريخية يمكن أن تعيد تشكيل مستقبلها لعقود، في هذا السياق المشحون، جاء الهجوم الصاروخي الذي ضرب منطقة المِزّة في دمشق ليضيف طبقة جديدة من التعقيد، ويثير أسئلة عميقة حول الجهات التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار في لحظة انتقالية شديدة الهشاشة، المِزّة ليست مجرد حيّ عادي؛ إنها منطقة تختلط فيها المؤسسات الرسمية القديمة، والمقار الأمنية السابقة، والمباني السكنية، وتمثل رمزاً لعمق الدولة في العاصمة.
الهجوم، الذي أدى إلى إصابة مدنيين وإلحاق أضرار في منطقة سكنية، لم يكن مجرد حادث أمني عابر، وقع في توقيتٍ تزدحم فيه الساحة السورية بفراغ سياسي، وتنافس قوى إقليمية، ومحاولات داخلية لإعادة توزيع النفوذ بعد سقوط النظام السابق، كل ذلك يجعل من الهجوم رسالة -أياً كان مرسلها- أوسع من مجرد صاروخين.
ماذا يستهدف الهجوم فعلياً؟ قراءة في أهداف الضربة
المعطيات الأولية، ضمن هذا السيناريو المفترض، تشير إلى أنّ الهجوم لم يستهدف القصر الجمهوري ولا مقار القيادة الجديدة، بل سقط في منطقة سكنية داخل المِزّة، هذا يعزز تفسيراً مهماً: الجهة المنفذة لا تريد توجيه ضربة قاصمة للسلطة الجديدة، بل تسعى إلى إرسال إشارة مزدوجة إرباك أمني من جهة، وقياس ردّ فعل “السلطة المؤقتة” من جهة أخرى.
غالباً ما تستخدم المجموعات المعترضة أو القوى الإقليمية المتضررة من تحوّلات السلطة هذا النوع من الضربات لخلق حالة من الشكّ والرعب لدى السكان، ولإظهار ضعف الحكومة الجديدة أمام الرأي العام، بما أن السلطة الانتقالية التي يقودها الجولاني غير مستقرة بعد، فإن أي اهتزاز أمني في العاصمة يحمل وزناً مضاعفاً، وقد يُفسَّر كاختبار أولي لقدرتها على فرض السيطرة وإعادة تنظيم مؤسسات الدولة.
من يقف خلف الضربة؟ بين الصراع الداخلي والتنافس الإقليمي
في ظل غياب إعلان رسمي من أي جهة، تبقى الاحتمالات مفتوحة، أول الاحتمالات يتعلق ببقايا شبكات النظام السابق، التي قد تكون فقدت مراكز قوتها لكنها لم تفقد قدرتها على التخريب أو تنفيذ ضربات صغيرة ذات تأثير نفسي كبير، هذه الشبكات قد ترى في الهجوم وسيلة للقول إنها لا تزال موجودة، وأن سقوط النظام لا يعني نهايتها.
احتمال آخر يرتبط بقوى خارجية، وخاصة أن دمشق كانت دائماً نقطة تصادم للنفوذ الإقليمي، بعض الأطراف الإقليمية ربما تنظر بقلق إلى صعود الجولاني إلى واجهة السلطة حتى لو كان ذلك ضمن إدارة مؤقتة وتعتبره تحوّلاً يعيد توزيع التحالفات التقليدية، في هذه الحالة، يكون الهجوم محاولة لإرباك المشهد، أو فتح باب تدخلات أوسع تحت ذريعة حماية المدنيين أو مواجهة الفوضى، ولا يمكن استبعاد احتمال قيام مجموعات محلية تسعى إلى فرض وجودها عبر أعمال استعراضية، وخصوصاً في مرحلة انتقالية يسهل فيها اختراق الأمن واستغلال الفوضى الإدارية.
تحديات السلطة المؤقتة بعد الهجوم: اختبار القدرة على الحكم
الهجوم على المِزّة يشكّل اختباراً مبكراً لجهاز الحكم الجديد، ليس فقط من حيث القدرة على ضبط الأمن، بل أيضاً من حيث القدرة على قراءة الرسالة وفهم أهدافها، ومن ثم اتخاذ قرارات ذكية لا تؤدي إلى تصعيد غير محسوب.
التعامل الرسمي مع الحدث يحتاج إلى توازن دقيق:
من جهة، يجب طمأنة المواطنين بأن العاصمة تحت السيطرة وأن الجهات الأمنية قادرة على ردع أي محاولات جديدة، ومن جهة أخرى، ينبغي تجنّب الاتهامات العشوائية التي قد تدفع البلاد إلى مسارات صدامية قبل أن تستقر المؤسسات الانتقالية، السلطة المؤقتة مطالبة أيضاً بتحسين حضورها داخل المِزّة تحديداً، لأنها منطقة تُقرأ من خلالها قوة الدولة أو ضعفها.
انعكاسات الهجوم على المزاج الشعبي في دمشق
الهجوم على منطقة المِزّة لم يترك أثراً أمنياً فحسب، بل أحدث تغيراً واضحاً في المزاج الشعبي داخل العاصمة، فالسكان، الذين كانوا يأملون أن تمهّد المرحلة الانتقالية لقدر من الهدوء، وجدوا أنفسهم أمام هاجس جديد يذكّرهم بأن الطريق نحو الاستقرار لن يكون سهلاً، تزايد الشعور بالحذر بين الناس، وبدأت النقاشات تدور حول قدرة السلطة المؤقتة على حماية المدنيين، وعن مدى استعداد القوى المحلية للتعايش مع الواقع السياسي الجديد، ومع ذلك، يبدو أن جزءاً كبيراً من السكان متمسّكون بالأمل، معتبرين أن مثل هذه الأحداث لن توقف مسار التغيير.
الهجوم كمرآة للمستقبل: هل تتجه سوريا نحو الاستقرار أم الفوضى؟
مثل هذه الهجمات لا تعني بالضرورة أن البلاد ستغرق في الفوضى، لكنها تشير إلى أن مرحلة ما بعد سقوط النظام ستكون مليئة بالاختبارات، إن قدرة السلطة المؤقتة على امتصاص الصدمات الأولى، وبناء منظومة أمنية جديدة، وتحصين دمشق من الاختراقات، ستكون عوامل حاسمة في تحديد ما إذا كانت سوريا قادرة على الانتقال فعلاً نحو مسار استقرار قابل للحياة.
الهجوم قد لا يكون إلا البداية في سلسلة محاولات لقياس حدود القوة الجديدة، لكنه أيضاً فرصة للسلطة الانتقالية لتأسيس شرعيتها عبر الاستجابة الحكيمة والفعّالة، وبينما ينتظر السوريون بفارغ الصبر ملامح مستقبل جديد، يبدو أن الصراع لم يغادر البلاد بعد، بل غيّر فقط أشكاله وأدواته.
