الوقت- في تطور بارز يُثار للجدل، تظهر إشارات واضحة إلى أن دولة الإمارات العربية المتحدة باتت تتبوأ دوراً مغايراً لما تُعلنه علناً في العلاقات مع جمهورية العراق، إذ تُشير المعطيات إلى وجود «خطة» إماراتية مدعومة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، تستهدف التأثير في المشهد السياسي، الأمني والإعلامي العراقي، تأتي هذه التطوّرات في وقت تحاول بغداد استعادة دورها الإقليمي بعد مرحلة ما بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية – "داعش"، وهو ما يفتح الباب أمام قراءة استراتيجية لإعادة ترتيب النفوذ في العراق والمشرق العربي.
تَمدّد اقتصادي بغطاء سياسي
تتكثّف علاقات الإمارات مع العراق خلال السنوات الأخيرة في مجالات الاستثمار والطاقة والبنية التحتية. ففي ورقة بحثية حديثة بعنوان “Saudi and Emirati engagement in Iraq”، يُبيّن الباحثون أن أبو ظبي استثمرت منذ العام 2017 جهودها في العراق ضمن نطاق سياسي-أمني واقتصادي، وكان لها دور متنامٍ في تعزيز حضورها لدى الأوساط السُنية والمناطق غير الشيعية من البلاد، كما تشير دراسات أخرى إلى أن الإمارات حاولت عبر استثماراتها وعلاقاتها الاقتصادية تعزيز نفوذها في العراق، مستخدمةً الاقتصاد كواجهة لدعم العلاقات السياسية والأمنية، في وقت يسعى فيه العراق إلى استقطاب استثمارات خليجية واسعة بعد الحرب، بما يجعل أبو ظبي لاعباً حاضراً في مسار إعادة تشكيل البنية الاقتصادية العراقية.
وفي تقرير صادر عن Chatham House بتاريخ الـ 25 من يونيو 2025، تمّ التأكيد على أن العراق يواجه مرحلة تبدّل في توازن القوى الإقليمية وأنه من الصعب عليه تجنّب أن يُسحب إلى دوامة التأثير الخارجي المتعدد، أما العلاقات الإماراتية-الصهيونية، فقد منحها التطبيع في إطار اتفاقات أبراهام مستوى أكبر من النفوذ في واشنطن، ومجالاً أوسع للتنسيق مع الاحتلال، بما يعزّز قدرتها على لعب دور مزدوج في الإقليم، ورغم أن الربط المباشر بين تلك التحركات و«خطة سرّية» يحتاج إلى تفاصيل أكثر، إلا أن المؤشرات المُجمعة تكفي لبناء فرضية وجود مشروع يتجاوز التعاون التقليدي.
نفوذ يهدف لإعادة هندسة التوازنات
من زاوية سياسية-أمنية، يمكن قراءة ما يجري في العراق كجزء من استراتيجية أوسع يقودها محور غربي-خليجي-صهيوني، تستهدف منع تشكيل أفق موحّد لمحور المقاومة في المنطقة، الإمارات، في هذا السياق، تُستخدم كأداة قادرة على الحركة: فهي تمتلك القدرات الاقتصادية، والعلاقات الوثيقة مع واشنطن، وقنوات التواصل المستقرة مع الكيان الصهيوني، بذلك، تتحوّل مشاريع الاستثمار الضخمة في العراق إلى أدوات نفوذ تُسهِم في خلق مساحة تأثير سياسي، يجري عبرها دفع بغداد نحو خيارات تتماشى مع الرؤية الأميركية-الصهيونية لإعادة تشكيل المشرق.
ولا يمكن فصل أي مشروع اقتصادي إماراتي في العراق عن الخلفيات الجيوسياسية، فالمشاريع الضخمة للبنية التحتية أو الطاقة ليست مجرد تعاون تنموي؛ بل يمكن أن تتحول إلى رافعة لتمكين شبكات نفوذ جديدة، وخصوصاً إذا اقترنت ببرامج تدريب، شراكات مالية، أو حضور مؤسسات إماراتية تعمل داخل العراق.
نفوذ ناعم يتسلّل عبر الفضاء الرقمي
يمتد النفوذ الإماراتي في العراق ليشمل الجانب الإعلامي والعمليات النفسية. فوسائل الإعلام الرقمية، التمويلات غير المباشرة، ودعم منصات شبابية ومدنية، تتيح للإمارات إمكانية تشكيل رواية داخلية في العراق تخدم أهدافها، فالتأثير في الرأي العام، ولو عبر أدوات غير مباشرة، يمكن أن يغيّر من اتجاهات الحوار الدائر حول الهوية الوطنية، العلاقات الخارجية، وحتى وجهات النظر حيال محور المقاومة.
ويُعد هذا الشكل من النفوذ جزءاً من نموذج حديث تتبناه الإمارات في المنطقة، يقوم على «الهندسة الإعلامية» وتوجيه النقاش العام نحو قضايا تضمن لها عمقاً في مواقع القرار، ويزداد هذا الأسلوب فعالية حين يقترن بغطاء اقتصادي يجعل من الوجود الإعلامي جزءاً من منظومة نفوذ متكاملة، تمتد من التمويل إلى التأثير الثقافي والبحثي.
وعي شعبي في مواجهة الاختراق الخارجي
على المستوى العراقي الداخلي، يتزايد الوعي الشعبي والسياسي بأهمية الحفاظ على استقلال القرار الوطني، فالعراقيون خاضوا تجارب ثقيلة مع التدخلات الخارجية، ويُدركون اليوم أن النفوذ الاقتصادي أو الإعلامي قد يكون مقدمة لتأثير سياسي واسع، لذلك، تبرز الحاجة إلى بناء منظومة رقابية فعالة تكشف شروط الاستثمارات، وتدقّق في خلفيات الشراكات، وتضمن ألا تتحوّل المشاريع الخارجية إلى أدوات ضغط أو مسارات لهيمنة أجنبية.
كما يعدّ الإعلام الوطني والمستقل ركناً حاسماً في مواجهة محاولات التأثير الناعم، فالتحقيقات الاستقصائية، نشر الوثائق، وتحليل مسارات التمويل، كلها أدوات تعزز قدرة المجتمع العراقي على حماية قراره وسيادته.
العراق بين استعادة السيادة وضغط المحاور
تشير مجمل المعطيات إلى أن العراق يواجه اليوم موجة جديدة من النفوذ الخارجي تتقاطع فيها مصالح الإمارات، الولايات المتحدة، والكيان الصهيوني، وبينما لا توجد وثائق كاملة تكشف تفاصيل «خطة» محددة، فإن مسار الأحداث يوحي بتشكل مشروع نفوذ جديد يعمل بأساليب غير مباشرة، ويستهدف التأثير في توازنات القوة داخل العراق والمنطقة. وإذا لم تُدِر بغداد علاقاتها الخارجية بقدر أعلى من الصرامة والشفافية، فإن مساحة القرار الوطني قد تُصاب بخلل كبير، الأمر الذي يترك العراق عرضة لتجاذبات المحاور، لكن في المقابل، فإن الوعي الشعبي ومطالبة العراقيين بسيادة كاملة يمثلان نقطة ارتكاز مهمة لمواجهة هذه التحركات.
الاستثمار كأداة نفوذ وتحدي العراقيين للهيمنة
من الواضح أن المرحلة الحالية تتجاوز فكرة التعاون الاقتصادي التقليدي، نحن أمام تحوّل كبير في طبيعة النفوذ الإقليمي، حيث يُعاد استخدام الاستثمار كأداة سياسية، والاقتصاد كبوابة أمنية، والإعلام كوسيلة لإعادة تشكيل وعي المجتمعات. العراق، بموقعه الجغرافي وحساسية توازنه الداخلي، يتحول إلى ساحة تنافس تُمارس فيها الإمارات، بدعم أميركي-صهيوني، دوراً أكبر مما كان معتاداً، لذلك، فإن مسؤولية حماية السيادة لا تتوقف على الحكومة فقط، بل تشمل النخب، الإعلام، والقوى الشعبية التي باتت اليوم أكثر قدرة على كشف النفوذ الخارجي وتحديد مصالح الوطن أولاً.
