الوقت - بعد انقضاء أسابيع على تقديم الوثيقة التي تُسوّقها واشنطن “مقترحاً” للبنان - والتي ليست في حقيقتها سوى إملاءات ومطالب أمريكية صارخة - وبعد الردّ الموحد من حكومة بيروت عليها، تصاعدت حدة الضغوط الأمريكية في الآونة الأخيرة، ووفدت إلى بيروت رسائل تحمل في طياتها التهديد والوعيد، تشدّد على ضرورة حسم مسألة سلاح حزب الله على وجه السرعة، مؤكدةً أن الظروف لم تعد تسمح بمزيد من المماطلة والتسويف.
جاء ذلك في أعقاب الرد الأمريكي غير الرسمي على رفض مقترحات نبيه بري، رئيس المجلس النيابي اللبناني، التي أبلغها إلى توم باراك، المبعوث الأمريكي، خلال زيارته الثالثة للعاصمة اللبنانية.
مسرحية الخداع الأمريكية لتجريد لبنان من سيادته وإطالة أمد العدوان الإسرائيلي
كشفت مصادر لبنانية رفيعة المستوى لموقع "العربي الجديد" قائلةً: “جرت اتصالات مكثفة مع توم باراك والجانب الأمريكي الذي أعلن صراحةً أن مقترح نبيه بري غير مقبول بتاتاً، ولا سيما فيما يتعلق بتقديم ضمانات للبنان ووقف آلة الحرب الإسرائيلية المتوحشة”.
وأضافت المصادر إن الأمريكيين أكدوا بلهجة قاطعة أن واشنطن تريد من لبنان أن يخطو الخطوة الأولى، وأنه ينبغي عقد جلسة للحكومة اللبنانية في أقرب وقت ممكن بجدول أعمال يتضمن نزع سلاح حزب الله وحصر السلاح بيد الدولة، ولم يتبلور بعد اتفاق حول موعد انعقاد جلسة الحكومة، لكن المشاورات والاتصالات لا تزال جاريةً على قدم وساق، وخاصةً على مستوى رئيس البرلمان ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، مع إجماع على أن مسألة حصر السلاح بيد الدولة ينبغي أن تُحسم عبر التوافق والتشاور الداخلي، لا من خلال إشعال فتيل التوتر والصدام الذي قد يهوي بالبلاد إلى هاوية سحيقة.
وشددت المصادر على أن الاتصالات لا تزال متواصلةً، وخاصةً مع راعيي اتفاق وقف إطلاق النار - الأمريكيين والفرنسيين - للضغط على الكيان الصهيوني لوقف عدوانه ولو مؤقتاً كي يتسنى للبنان اتخاذ إجراءات عملية، إلا أن الأمريكيين يصرون بعناد على عدم تقديم أي ضمانات لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، مؤكدين أن على لبنان أن يبادر أولاً إلى نزع سلاح حزب الله.
حزب الله: لا نثق بأي اتفاق مع أمريكا علی الإطلاق
من جانب آخر، صرّح مصدر برلماني بارز في حزب الله للعربي الجديد قائلاً: “الأمريكيون لا يسعون لمصلحة لبنان قط، بل يعملون ليل نهار لخدمة مصالح الكيان الصهيوني، ويريدون فرض أوامرهم وإملاءاتهم بقبضة من حديد، يطمحون أن ينفّذ لبنان جميع مطالبهم لمصلحة "إسرائيل" دون أن يجرؤ على طلب شيء في المقابل، أدنى ما يطلبه لبنان هو وقف العدوان الإسرائيلي، وكان ينبغي أن يتحقق ذلك في السابع والعشرين من نوفمبر حين دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، لكننا نشهد أن الصهاينة انتهكوا الاتفاق أكثر من أربعة آلاف مرة بكل صلف واستخفاف”.
وأضاف المصدر: “مآرب واشنطن وتل أبيب باتت مكشوفةً كالشمس في رابعة النهار؛ يبتغون اجتثاث حزب الله من جذوره وتجريد لبنان من أسباب قوته ودفع بلادنا نحو أتون الفوضى والفتنة الداخلية، لهذا السبب نشهد، إلى جانب الاعتداءات المتواصلة للكيان الصهيوني على أرض لبنان، تصعيداً محموماً في الضغوط الأمريكية لإملاء مطالبها على حكومة بلادنا”.
وأكد المصدر: “موقف حزب الله راسخ؛ لا نثق بأي اتفاق مع أمريكا ذرة ثقة، فقد سبق أن أُبرم اتفاق لوقف إطلاق النار لكنه ظل حبراً على ورق، وأي اتفاق جديد لن يقدّم ضمانات حقيقية لوقف الاعتداءات والاحتلال الصهيوني”.
سقوط قناع الدبلوماسية عن وجه المبعوث الأمريكي
في غضون ذلك، تخلى توم باراك، الذي حاول في بداية الأمر أن يتقمص دور الدبلوماسي المحنك، عن قناعه المزيف في الأيام الأخيرة، سالكاً نهج ممثلي واشنطن المعهود في لبنان باستخدام لغة التهديد والوعيد ضد بيروت. قبل أيام معدودة، أطلق ميشال معوض، النائب في البرلمان اللبناني المعروف بمناصبته العداء لحزب الله وتعاونه الوثيق مع الأمريكيين، تصريحات نارية قائلاً: “ما نحتاج إليه هو خيار جلي واضح: إما أخذ زمام المبادرة أو الفناء، نحن اليوم على مفترق طرق مصيري؛ إما أن نتولى زمام المبادرة لإنقاذ لبنان، أو نظل نتخبط في أتون الجحيم، الهوي إلى قاع الجحيم لم يعد خطراً يلوح في الأفق، بل أضحى واقعاً مريراً نتجرع غصصه يوماً إثر يوم”.
أيّد توم باراك تصريحات النائب اللبناني المذكور تأييداً مطلقاً، وطالب الحكومة بوضع خطة واضحة المعالم وقابلة للتنفيذ لنزع سلاح حزب الله وتفكيك بنيته.
هذا المبعوث الأمريكي، الذي حطّ رحاله في بيروت مطلع الأسبوع المنصرم، اتخذ لهجةً متشددةً وموقفاً تهديدياً صارخاً في لقائه مع جوزيف عون ونواف سلام، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء اللبنانيين، وصرح علناً للبنانيين بأن أمريكا لا ترغب ولا تملك القدرة على الضغط على "إسرائيل" لوقف عدوانها المستشري، بيد أن الأجواء تبدلت نسبياً عقب لقاء توم باراك ونبيه بري، إذ وصف المبعوث الأمريكي هذا اللقاء بأنه “متميز”.
ووفقاً لمصادر لبنانية موثوقة، طرح نبيه بري خلال هذا الاجتماع حزمةً من المقترحات البناءة، من بينها أن توقف "إسرائيل" هجماتها لمدة خمسة عشر يوماً لتتمكن الحكومة اللبنانية من التنسيق مع حزب الله، وأن تكون الخطوات المتخذة متبادلةً ومتوازنةً، بما في ذلك انسحاب "إسرائيل" من خمس تلال استراتيجية استولت عليها في جنوب لبنان وإطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، غير أن الأمريكيين قدموا مؤخراً ردّهم السلبي القاطع على هذا المقترح، مصرين على ضرورة حسم مسألة سلاح حزب الله قبل أي خطوة أخرى.
مواقف بري الحكيمة وسط عاصفة الضغوط الأمريكية
أماطت صحيفة الجمهورية اللبنانية اليوم اللثام عن أن نبيه بري يتعامل بحكمة بالغة وبصيرة نافذة مع المفاوضات الجارية مع توم باراك، مستشعراً ثقل المسؤولية التاريخية الجسيمة الملقاة على كاهله، ويعزى ذلك إلى موقعه المرموق كرئيس للمجلس النيابي اللبناني من جهة، وكحليف استراتيجي لحزب الله من جهة أخرى، وانطلاقاً من هذا المنظور، يتجنب بري الخوض في تفاصيل مسار المفاوضات والضغوط السياسية والعسكرية المتشابكة المحيطة بها.
وفي الوقت الذي تعمد فيه بعض الأطراف في الساحة اللبنانية إلى الترويج لسيناريوهات قاتمة حالكة السواد، وتتحدث بلهجة تشاؤمية عن احتمال اندلاع حرب شاملة ضد لبنان، أعرب نبيه بري عن استيائه البالغ واعتراضه الشديد على هذه الشائعات المغرضة التي تؤجّج نيران الفتنة وتبثّ الذعر في النفوس.
وفي هذا السياق، صرح بري لصحيفة الجمهورية قائلاً: “بغض النظر عن طبيعة نوايا إسرائيل ومخططاتها، فإن مبالغة بعض الأطراف داخل البلاد في الحديث عن اندلاع حرب شاملة ضد لبنان، أمر يثير الاستغراب والدهشة، ويتنافى كلياً مع روح المسؤولية الوطنية اللبنانية”.
وأشاد رئيس المجلس النيابي اللبناني بنهج جوزيف عون في إدارة المفاوضات مع الجانب الأمريكي ومعالجة مسألة التسلح، قائلاً إن طريقة تعامله مع هذا الملف الشائك تتسم بالحنكة والدراية.
وعندما استُفسر بري عن الشائعات المتداولة مؤخراً حول وجود خلافات بينه وبين حزب الله، أجاب مبتسماً: “لا أنا ولا حزب الله على دراية بهذه الشائعات المزعومة، فليقولوا ما يحلو لهم”.
وبخصوص تحذير توم باراك بأن على لبنان اتخاذ خطوات عملية ملموسة لنزع سلاح حزب الله، قال: “كلامه موجّه إلى الحكومة، وأنا من جانبي سأواصل السعي الدؤوب للبحث عن حلول ناجعة”.