الوقت - في خضم النزاعات الجيوسياسية المعقدة التي تعصف بغرب آسيا وشمال إفريقيا، يبرز العراق كمحور رئيسي للتحولات والتنافسات الإقليمية والدولية، بفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي الذي جعله على مدى عقود مركزًا للصراع والتفاعلات السياسية، وقد تجلى هذا الدور المحوري مرةً أخرى خلال النزاع الأخير الذي استمر اثني عشر يومًا بين إيران والكيان الصهيوني، حيث لعب العراق دورًا بالغ الأهمية في سير الأحداث.
فالعراق لا يُعد مجرد حلقة وصل جغرافية بين إيران وسوريا ولبنان، بل إن أجواءه الواسعة، والتي يفتقر بعضها إلى الرقابة الفعّالة، تحولت إلى مسرح تستغله المقاتلات الإسرائيلية لتنفيذ غاراتها الجوية ضد مواقع محور المقاومة في سوريا، وأحيانًا حتى داخل الأراضي العراقية.
وفي الحرب الأخيرة التي دامت اثني عشر يومًا، عاد العراق ليتحول إلى ممر حيوي لعمليات عسكرية غير مباشرة تنفذها "إسرائيل"، فقد سعت تل أبيب، مستفيدةً من الغطاء الجوي الذي يوفره التحالف الأمريكي والثغرات الأمنية في المجال الجوي العراقي، لتحويل أجواء العراق إلى ممر آمن لشنّ هجماتها ضد إيران ومحور المقاومة.
وفي ظل هذه الظروف الحرجة، برزت مواقف الحكومة العراقية وحساسيتها تجاه انتهاكات السيادة، بالإضافة إلى قدرتها على إدارة مجالها الجوي، كعوامل رئيسية تؤثر على مسار الحرب، إذ إن طريقة تعامل بغداد مع هذا التحدي لا تؤثر فقط على نتائج النزاع الحالي، بل قد تُلقي بظلالها على مستقبل الأمن الوطني العراقي، وعلى بنية المقاومة الإقليمية.
هذا التقرير يتناول أبعاد هذه القضية في ثلاثة محاور رئيسية، مسلطًا الضوء على جوانبها المختلفة، وأهميتها في صياغة المشهد الإقليمي والدولي.
مواقف الحكومة العراقية خلال النزاع الذي استمر اثني عشر يومًا
في خضم النزاع الذي امتد على مدار اثني عشر يومًا، اتبعت السلطات العراقية نهجًا يتسم بالحذر والحياد، ساعيةً إلى إبقاء نفسها بعيدًا عن دائرة المواجهة المباشرة، اكتفت الحكومة العراقية، رسميًا، بإدانة الهجمات التي شنها الكيان الصهيوني على إيران، ودعت جميع الأطراف إلى ضبط النفس، مؤكدةً ضرورة إنهاء النزاع بأسرع وقت ممكن.
ومع ذلك، لم يُبدِ العراق رد فعل عمليًا وحاسمًا تجاه الانتهاكات الجوية الواضحة التي قامت بها المقاتلات الإسرائيلية أثناء عبورها المجال الجوي العراقي، بل فضّل معالجة الأمر عبر القنوات الدبلوماسية، محافظاً على موقفه الحيادي لتجنب الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة.
وفي تصريح أدلى به أحد مستشاري الحكومة العراقية لصحيفة Cradle، قال: "اخترنا البقاء في المنتصف، ليس لأننا نحبّ الحياد، بل لأن الانحياز إلى أي طرف يعني إحراق البيت بأكمله".
مع بداية النزاع، طالب العراق الولايات المتحدة، مستنداً إلى الاتفاقيات الثنائية والقوانين الدولية، بمنع الطائرات الإسرائيلية من انتهاك المجال الجوي العراقي واستخدامه لتنفيذ ضرباتها العسكرية ضد إيران، وفي بيان رسمي، أعلن صباح النعمان، المتحدث باسم الجيش العراقي: "تطالب الحكومة العراقية الولايات المتحدة بالالتزام بمسؤولياتها وفق الاتفاقيات الموقعة بين البلدين، ومنع أي انتهاك جديد للمجال الجوي العراقي من قِبَل الطائرات التابعة للكيان الصهيوني".
لكن مواقف فصائل المقاومة كانت أكثر حدةً، فقد أصدرت كتائب حزب الله بيانًا قالت فيه: "نراقب عن كثب تحركات العدو الأمريكي في المنطقة، وإذا تدخلت واشنطن في هذا النزاع، فلن نتردد لحظةً في استهداف مصالحها وقواعدها فورًا".
وفي الأيام التالية، كشف عباس كاظم عبيد الفتلاوي، مندوب العراق لدى الأمم المتحدة، قبيل انعقاد جلسة مجلس الأمن الدولي بشأن النزاع الإسرائيلي-الإيراني يوم الجمعة، أن خمسين طائرة إسرائيلية مقاتلة قد انتهكت المجال الجوي العراقي، مشيرًا إلى أنها انطلقت من المناطق الحدودية مع سوريا والأردن.
وخلال جلسة مجلس الأمن، طالب العراق بوقف فوري وملزم لجميع الانتهاكات الجوية التي تمثّل تعديًا صارخًا على سيادته، مع تقديم ضمانات دولية لحماية أجوائه من أي اعتداءات مستقبلية، بغض النظر عن مصدرها، كما دعت بغداد إلى توفير الدعم الفني اللازم لتعزيز قدراتها الدفاعية، بما يتناسب مع حجم التهديدات الإقليمية المتصاعدة.
وفي ظل هذه الانتهاكات المتكررة لسيادة العراق، دعا خمسة وخمسون نائبًا، معظمهم من الكتل القريبة من فصائل المقاومة، إلى عقد جلسة طارئة في البرلمان، ولكن بدلًا من تحقيق الوحدة، غرق البرلمان في حالة من الانقسام والارتباك، ولم تسفر الجلسة إلا عن إدانات غير فعالة، وخلف الأبواب المغلقة، انقسمت الكتل السياسية على أسس أيديولوجية وجيوسياسية، حيث تمسك البعض بموقف الحياد وكأنه طوق نجاة.
هذه المواقف، ورغم أنها ظاهريًا تهدف إلى الحفاظ على أمن العراق وتجنيبه الدخول في مواجهة واسعة النطاق، إلا أنها وضعت السيادة الوطنية العراقية تحت خطر الانتهاك المستمر والمنهجي، ويمكن القول إنها عجزت عن اتخاذ إجراءات فعّالة لحماية سلسلة الأمن الممتدة عبر جغرافيا محور المقاومة.
خطر الخطأ في حسابات بغداد
تُظهر مواقف ونهج الحكومة العراقية أن بعض المسؤولين، ولا سيما في وزارة الخارجية، يقعون في وهمٍ مفاده بأن إعلان الحياد واعتماد سياسات متخاذلة، قد يجنّب العراق تبعات الحروب وأزمات المنطقة، إلا أن هذا الخطأ في الحسابات، قد يُفضي إلى عواقب وخيمة لا يمكن تعويضها على صعيد الأمن الوطني العراقي.
والحقيقة أن تل أبيب، بقيادة بنيامين نتنياهو، لا تسعى إلى حرب محدودة ضد إيران فحسب، بل تنتهج استراتيجيةً أوسع تهدف إلى توسيع نطاق الأزمة وجرّ كامل جغرافيا محور المقاومة إلى ساحة الصراع، بغية تقويض بنيته الإقليمية وصولًا إلى تدميره، وذلك بدعم أمريكي مباشر، هذا المشروع يُعد جزءًا من الخطة الكبرى لـ"الشرق الأوسط الكبير"، وامتدادًا لمخطط “من النيل إلى الفرات”، حيث يُنظر إلى العراق كهدف استراتيجي في هذه المخططات.
إذا استمرت بغداد في تبني سياسات الحياد المتخاذلة ولم تتخذ ردود فعل حازمة تجاه الانتهاكات الجوية التي تطال سيادتها، فقد يؤدي ذلك في المستقبل إلى زيادة هشاشة العراق، وتفاقم التجاوزات، بل ربما إلى شنّ هجمات مباشرة على أراضيه.
وفي ظل هذه الظروف، يحتاج العراق إلى تبني نهج الحياد الفعّال، وهو نهج لا يقتصر على التصدي للانتهاكات الجوية التي يرتكبها الكيان الصهيوني، بل يمتد إلى استخدام الأدوات الدبلوماسية والعسكرية للضغط على الولايات المتحدة لإنهاء احتلالها، وإغلاق المجال الجوي العراقي أمام العمليات الإسرائيلية، وحده هذا النهج يمكن أن يضمن الحفاظ على سيادة العراق وحمايته من الوقوع في فخ الأزمات المفروضة.
وينبغي لهذا الموضوع أن يلقى اهتمامًا خاصًا من الأطراف الكردية في شمال العراق، حيث إن خلف ستار الحياد المزعوم، تُخفي أربيل منذ فترة طويلة اعتمادها الاستراتيجي على الوجود العسكري الأمريكي، وتماهيها مع المخططات الغربية والإسرائيلية التي تستهدف شمال العراق.
يقظة المرجعية؛ الورقة الرابحة للمقاومة في العراق
من أبرز التطورات التي شهدتها الحرب الـ 12 يومًا، إصدار بيان مهم من قبل المرجعية الشيعية العليا في العراق، متمثلةً بسماحة السيد علي السيستاني، في هذا البيان، أدانت المرجعية بوضوح الهجمات التي شنها الكيان الصهيوني على إيران، محذرةً من أن أي اعتداء على المؤسسات الدينية والمرجعية في إيران قد يترتب عليه تداعيات خطيرة جدًا على المنطقة.
تكمن أهمية هذا البيان في عدة نقاط؛ أولها أن السيد السيستاني يُعد من الشخصيات القليلة التي يمكن لفتاواه أن تُحدث تغييرات جذرية في المشهد الاجتماعي والسياسي والعسكري في العراق، والتجربة التاريخية لفتوى الجهاد الكفائي ضد تنظيم "داعش"، التي أدت إلى تعبئة شعبية واسعة وتأسيس قوات الحشد الشعبي، تُظهر بجلاء قدرة المرجعية على إعادة تشكيل المعادلات الميدانية.
وجاء إصدار هذا البيان في خضم النزاع الأخير ليحمل أهميةً خاصةً للرأي العام العراقي، كما بعث برسالة قوية إلى تل أبيب وواشنطن مفادها بأن المرجعية الدينية في العراق مستعدة للدفاع عن محور المقاومة والتصدي للعدوان، ويمكن لهذا الموقف أن يُشكّل عامل ردع رئيسي يُسهم في حفظ استقرار العراق ومنع تعمق الأزمة.
وفي الواقع، إن يقظة المرجعية وقدرتها على التعبئة الاجتماعية تُعد الورقة الرابحة للمقاومة في العراق، وهي عامل محوري ينبغي على الحكومة العراقية أن تأخذه في الاعتبار في حساباتها الاستراتيجية، وإغفال هذا الدور قد يجعل العراق عرضةً لمشاريع الكيان الصهيوني، التي تهدف إلى زعزعة استقراره وتفكيك بنيته الوطنية.