الوقت- في سياق تصعيد التوترات بين الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، اتخذت "إسرائيل" خطوة مثيرة للجدل بحجز مبلغ 90 مليون دولار من أموال المقاصة التي كانت مخصصة للسلطة الفلسطينية، هذه الخطوة تأتي في وقت حساس، حيث تزايدت الضغوطات السياسية والاقتصادية على الفلسطينيين، ويمكن النظر إلى هذا القرار على أنه جزء من سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى تقليص الموارد المالية للسلطة الفلسطينية، وهو ما يؤدي إلى زيادة الضغط على الحكومة الفلسطينية من الناحية الاقتصادية والسياسية، ما يحد من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، كما أن هذه الخطوة تأتي في سياق تصعيد إسرائيلي متواصل، حيث تستغل حكومة الاحتلال سيطرتها على الموارد المالية الفلسطينية لفرض إملاءاتها السياسية، وبينما تواجه السلطة الفلسطينية أزمة مالية خانقة، يثير هذا الإجراء تساؤلات حول إمكانية اتخاذ خطوات فلسطينية ودولية لمواجهة هذه الضغوط.
من الجدير بالذكر أن أموال الضرائب الفلسطينية، التي تجمعها حكومة الاحتلال الاسرائيلي نيابة عن السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقيات اقتصادية سابقة، تعتبر أحد أهم مصادر الدخل للسلطة، وتُستخدم لدفع رواتب الموظفين وتقديم الخدمات الأساسية.
حجز 90 مليون دولار
وقع وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، قرارًا يقضي بحجز 90 مليون دولار من أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة) وتحويلها إلى عائلات إسرائيلية تدّعي أن أفرادًا منها قتلوا في هجمات فلسطينية، ويأتي هذا الإجراء ضمن سلسلة من الاقتطاعات المالية التي تنفذها "إسرائيل" بحجة منع تمويل مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية.
تشكل أموال المقاصة حوالي 65% من إجمالي الإيرادات المالية للسلطة الفلسطينية، وتُستخدم في دفع رواتب الموظفين العموميين، ومنذ عام 2019، صعّدت "إسرائيل" من اقتطاعاتها، إذ بلغت 165 مليون دولار سنويًا وارتفعت لاحقًا إلى نحو 195 مليون دولار، ما أدى إلى عدم قدرة السلطة على دفع رواتب موظفي القطاع العام كاملة منذ عام 2021.
جاء القرار الإسرائيلي رغم إصدار الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسومًا رئاسيًا يلغي قوانين دفع مخصصات الشهداء والأسرى، في محاولة لتخفيف الضغوط المالية، ومع ذلك، تواصل "إسرائيل" استخدام أموال المقاصة كأداة ضغط سياسي على السلطة، في ظل تصاعد التوترات في الضفة الغربية، ما يعزز حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الأراضي الفلسطينية.
لتعويض المستوطنين المحتلين!
يمثل قرار وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، بمصادرة أموال الضرائب الفلسطينية نموذجًا صارخًا لاستغلال الاحتلال لمقدرات الشعب الفلسطيني في خدمة مشروعه الاستيطاني، فبدلًا من أن تُستخدم هذه الأموال لدفع رواتب الموظفين الفلسطينيين وتقديم الخدمات الأساسية، يتم تحويلها لتعويض عائلات المستوطنين الذين استوطنوا الأراضي الفلسطينية المحتلة بطرق غير شرعية.
لا يأتي هذا القرار بمعزل عن سياسات الاحتلال طويلة الأمد التي تستهدف تجفيف الموارد المالية للسلطة الفلسطينية، بل يُعد حلقة جديدة في سلسلة من الإجراءات العقابية التي تهدف إلى إضعاف السلطة وإخضاعها سياسيًا واقتصاديًا، فمنذ سنوات، تتذرع "إسرائيل" بأن السلطة تدعم العمليات الفدائية من خلال مخصصات الأسرى والشهداء، رغم أن هذه المخصصات تدخل في إطار الالتزامات الاجتماعية التي تقدمها السلطة لأبناء شعبها المتضررين من الاحتلال.
اللافت أن المصادرة جاءت بعد نقاشات داخلية في حكومة الاحتلال، حيث بحثت القيادات الإسرائيلية كيفية الاستفادة القصوى من أموال الفلسطينيين لتحقيق أهدافها السياسية والاستيطانية، وقد تم اتخاذ القرار بناءً على توصيات أمنية وسياسية، وهو ما يعكس الطابع الممنهج لهذه السياسة، التي تتجاوز البعد الاقتصادي إلى معاقبة الفلسطينيين جماعيًا وتجريدهم من أدواتهم المالية.
تبرير حكومة الاحتلال الإسرائيلي لهذا الإجراء على أنه تعويض لعائلات المستوطنين يكشف عن ازدواجية معاييرها، إذ يتم تسخير أموال الفلسطينيين لتمويل الاستيطان، في حين تستمر حكومة الاحتلال في سرقة الموارد الفلسطينية وفرض المزيد من القيود الاقتصادية، هذا النهج يعكس رؤية إسرائيلية ترى في المال أداة لفرض الهيمنة، وهو ما دفع السلطة الفلسطينية إلى اعتبار القرار تصعيدًا خطيرًا يستهدف خنقها ماليًا وحرمانها من القدرة على الوفاء بالتزاماتها الداخلية.
وعلى سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قضت محكمة الاحتلال في القدس المحتلة بإلزام السلطة الفلسطينية بدفع 12.5 مليون دولار تعويضات عقابية وتكاليف جنازة ونفقات قانونية لعائلات 3 قتلى قتلوا في عملية سبارو التي وقعت عام 2001، وأُمهلت السلطة حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول الجاري لدفع التعويضات، وإلا ستُقتَطَع من أموال المقاصة المحتجزة لدى الاحتلال.
ردود فعل
القرار أثار ردود فعل واسعة، حيث طالبت السلطة الفلسطينية المجتمع الدولي بالتدخل العاجل لوقف هذه السياسات التي تتناقض مع الاتفاقيات الدولية، فبدلًا من احترام الالتزامات الاقتصادية المنصوص عليها في الاتفاقيات السابقة، تستخدم "إسرائيل" نفوذها المالي لفرض واقع استيطاني جديد، ما يزيد من حالة الغليان في الشارع الفلسطيني.
على المستوى الدولي، تزايدت الانتقادات لهذه الخطوة التي قد تؤدي إلى تصعيد التوترات في الأراضي المحتلة، فغياب الأفق السياسي، إلى جانب استمرار القرارات العقابية، يُنذر بتفاقم الأوضاع، وهو ما تحذر منه العديد من الجهات الدولية التي تدعو إلى ضرورة منع الاحتلال من استغلال الاقتصاد الفلسطيني كأداة ابتزاز سياسي.
في ظل هذا التصعيد، تؤكد السلطة الفلسطينية أنها ستلجأ إلى خطوات دبلوماسية وقانونية لمواجهة القرار، معتبرة أنه جزء من سياسة ممنهجة لتجويع الفلسطينيين وفرض واقع استيطاني جديد، ما يجعل المواجهة الاقتصادية بين الاحتلال والسلطة مرشحة لمزيد من التصعيد في الفترة القادمة.
حزمة سياسات خانقة
وتأتي هذه الخطوة ضمن حزمة من السياسات الممنهجة لإطباق الخناق على الشعب والحكومة الفلسطينية حيث قام الاحتلال بإصدار قوانين وتشريعات إسرائيلية جديدة، في الفترة التي عقبت عملية طوفان الأقصى والحرب الاسرائيلية على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وشملت قضايا تتعلق بالضرائب، والعمالة، والمعونات الاجتماعية، والتوسع الاستيطاني، وهي مجالات ذات تأثير مباشر على الاقتصاد الفلسطيني بسبب التشابك القائم بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي، ويمكن التطرق لأبرز هذه القوانين من خلال:
قانون حظر الأونروا
قرار حظر عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في أكتوبر/تشرين الأول الماضي في الأرض المحتلة أدى إلى تفاقم التحديات الاجتماعية والاقتصادية نتيجة توقف خدماتها؛ ففي الضفة الغربية وقطاع غزة، كان يستفيد أكثر من 340 ألف طالب من التعليم في مدارس الوكالة، ويُقدر عدد المستفيدين من الخدمات الصحية للأونروا بأكثر من 4 ملايين، حيث يؤدي حظر الأونروا إلى ارتفاع الحاجة إلى المساعدات الإنسانية من مصادر أخرى، إذ بلغت موازنة الأونروا 345 مليون دولار عام 2023، كانت توجه لدعم اللاجئين الفلسطينيين، ويعمل في الأونروا 30 ألف موظف، معظمهم فلسطينيون.
الخصم الضريبي للعمال
نص أحد بنود قانون الترتيبات الاقتصادية الخاص بموازنة الاحتلال لعام 2025 على إلغاء الخصم الضريبي الذي كان العمال الأجانب والفلسطينيون يتمتعون به، إذ يحصل العمال الفلسطينيون والأجانب الذين يعملون في الأراضي المحتلة على بعض الخصومات المرتبطة بضريبة الدخل أسوة بالعمال الإسرائيليين، وبناء على اعتبارات معينة مثل الإقامة والعمر والحالة الأسرية والجنس وما إلى ذلك.
من الجدير بالذكر سيؤدي إلغاء هذا الخصم إلى زيادة عبء الضرائب المفروضة على هذه الفئة من المجتمع الفلسطيني وانخفاض مدخولهم، ويتزامن هذا مع القيود التي فرضها الاحتلال منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 على دخول العمال الفلسطينيين للعمل في السوق الإسرائيلية.