الوقت- بعد خلاف دبلوماسي حاد بين العراق والسعوديّة، يبدو أن العلاقات بين البلدين تعود إلى مجاريها السابقة، بل أبعد من ذلك ربّما.
وخير دليل على ذلك هي المباركة السعوديّة، غير المعهودة، للعراق وإعلانها تجديد دعمها له، فضلاً عن تقدير جهود هذا البلد في مكافحة الإرهاب في المؤتمر الأخير لمكافحة "داعش". لم تكتفِ الرياض بذلك، بل عمدت ومن خلال خطوةً وصفها الكثيرون، بالمفاجئة، أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، أمس الخميس، عزم بلاده شطب الديون المترتبة على العراق للمملكة، دون ذكر حجم هذه الديون.
الإعلان السعودي هذا جاء خلال لقاء الجبير مع وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، على هامش اجتماع التحالف الدولي ضد "داعش" في واشنطن، إلا أن السؤال الأبرز الذي لا يزال الناس يلهجون به، وبحاجة إلى الإجابة هو الهدف من هذا القرار السعودي، لم يدخل حيّز التنفيذ بعد، باعتباره يأتي في ظل أوضاع اقتصاديّة صعبة لدى الرياض التي تعيش في دوّامة العجز الاقتصادي منذ سنوات.
هناك أسباب عدّة دفعت بالسعودية لإعلان نيّتها شطب ديونها المترتبة على العراق، بعضها سياسي، والآخر اقتصادي، نذكر منها:
أوّلاً: قد أشرنا في مقال سابق على هذه الزاوية تحت عنوان"موافق "أمريكا ترامب" المُستجدّة تجاه العراق؟" ،إلى احتمال حصول تقارب بعض الدول العربيّة مع العراق حالياً، ضمن الأهداف التي ذكرناها في المقال السابق، وفي مقدّمتها "القرار الأمريكي".
ثانياً: لم يكن اختيار المنصّة الأمريكية، وتحديداً مؤتمر مكافحة داعش عبثياً، بل حاولت الرياض من خلال هذه الخطوة ضرب عصفوين بحجر واحد. الأوّل السير في مشروع التقارب الأمريكي مع العراق. والثاني إظهار نفسها كأبرز الدول الداعمة للعراق في مكافحة الإرهاب رغم أن تصاريح المسؤولين العراقيين تضجّ بالعكس. نقتصر هنا على ذكر اتهام صدر عن الحكومة العراقية حمّلت فيه بغداد السعودية مسؤولية الدعم المادي والمعنوي الذي تحصل عليه "الجماعات الإرهابية وجرائهما" وما ينتج عن ذلك من جرائم تصل إلى حد الإبادة الجماعية وسفك دماء العراقيين وتدمير مؤسسات الدولة والآثار والمواقع التاريخية والمقدسات الإسلامية
ثالثاً: اختيار الورقة الاقتصاديّة مدروس بدقّة. فديون العراق الخارجيّة مشكلة تتوارثها الحكومات، وبالتالي فإنها حاجة ملحّة للعراقيين نظراً للأوضاع الاقتصاديّة الصعبة التي تعانيها البلاد متعدّدة الأسباب، أبرزها: التكاليف الباهظة للحرب على تنظيم داعش الإرهابي، الفساد الاقتصادي وهبوط أسعارالنفط الذي يعدّ المورد الرئيس للاقتصاد العراقي النفطي.
رابعاً: تسعى السعودية لحصد مكاسب اقتصادية في السوق العراقية، خاصّة في مرحلة إعادة الإعمار المقبلة. نستدل على ذلك أيضاً بما قاله النائب في مجلس النواب العراقي مازن المازني الذي أوضح أن السعودية تهدف إلى لعب دور اقتصادي مهم في العراق. وأضاف حينها:" العراق الآن محط أنظار ومطامع الكثير من الدول التي تريد أن تلعب دوراً رئيسيا فيه".
خامساً: تُعزّز هذه الخطوة من حظوظ أطراف عراقيّة داخلية تدين بالولاء للسعوديّة، سيكونون "حصان طروادة" الرياض خلال المرحلة القادمة. ولا نستبعد حصول السعودية على أجور مسبقة لهذه الخطوة. لست أتحدّث هنا عن أجور سياسيّة واقتصادية، بل توسّطها مجدداً للعفو عن طارق الهاشمي المحكوم بالإعدام بعد اعترافات عناصر حمايته بأنه قد دفعهم لارتكاب جرائم قتل مقابل مبالغ مالية، كما أنّه بعد هروبه إلى السعوديّة اعترف بنفسه بتسريبه معلومات أمنية إلى دول خليجية، وبالذات السعودية والبحرين.
سادساً: تصب هذه الخطوة في إطار زيارة الجبير الأخيرة إلى بغداد، الشهر الماضي، والتي تعدّ الأولى بعد تقديم بغداد طلباً في أغسطس/آب الماضي للرياض، باستبدال سفيرها ثامر السبهان، بسبب"تدخله في الشأن الداخلي العراقي"، وهي الزيارة التي وصفها محللون بمحاولات السعودية للسيطرة الناعمة على القرار العراقي عبر شعار "العودة إلى الأحضان العربية"، وكأن سوريا، ومصر، ولبنان و.. ليست بأحضان عربية. بل بعبارة أدق ولو بشيئ من التسامح في التعبير، وكأن السعودية فقط هي "الحاضنة العربية" الوحيدة. صدّام حسين أجاب السعوديّة عندما طالبته بهذه الديون بالمنطق السعودي نفسه: " الحرب العراقية الإيرانية (الحرب المفروضة) التي استمرت 8 سنوات كانت بمثابة دفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي"، حسب تعبيره.
لا شكّ أن عاصمة الرشيد ستجاري السعودية اليوم في خطوتها هذه، وتُظهر لها الامتنان، متغافلة عن اتهامها السابقة، لأسباب واضحة، لكن السؤال الأبرز لدى العراقيين، ما هو المقابل الذي تريده السعودية؟ وهل ستقدّم المزيد من خطوات حسن النيّة حتى يتناسى العراقيون تاريخها؟ في حين تعلّق أحد أمّهات الشهداء على هذا الأمر بالقول: لا حاجة لنا في أموال السعودية.. (الأموال) لن تعيد لي عائلتي التي قضت بأموال وأفكار سعوديّة متطرّفة.. لا دخل لنا بالديون فليذهبوا ويأخذوها ممن تبقوا من نظام البعث أو من صدّام نفسه".
ختاماً، لم يخرج العراق يوماً من الحاضنة العربية، بل هناك من يريده أن يبقى خاصرة عربيّة رخوة، لأن صعود العراق إلى أعلى الشجرة العربية، يعني نزول دول أخرى لا ترضى بالعراق، مصر أو سوريا في أن تكون أعلى هذه الشجرة.