الوقت- اصبح واضحا لكل متتبع للمشهد السوري، الدور التركي في تخطيط وتمويل وتسليح الهجمات على جبهات شمال غرب سوريا. فلم يعد الحديث في ذلك يتطلب دليلا، وهي باختصار حرب بالوكالة ينفذها التكفيريون لصالح تركيا، وتتلاقى مصالح دول كثيرة في هذه الحرب على سوريا الداعمة لحركات التحرر والمقاومة في المنطقة، والمقاتلين على الأرض كانوا اتحاد الجماعات التكفيرية، فيما كان المخطط والممول والمسلح تركيا.
فقد كان للجهد المخابراتي التركي، والتشويش على الاتصالات، دور رئيسي في سقوط إدلب وجسر الشغور بيد الجماعات التكفيرية، والمسلحون الذين طالما اشتكوا خلال السنوات الماضية، من نقص السلاح وقلة التمويل والمساعدات، خاضوا معارك إدلب وجسر الشغور وإمدادات السلاح التركية تكاد تغرقهم. والكتائب المسلحة التي كانت تبحث منذ سنوات عمن يعطيها صاروخاً واحداً مضاداً للدبابات، خاضت معارك إدلب وهي تطلق المئات من هذه الصواريخ ليس فقط على الدبابات والمدرعات، بل أطلقتها على كل شيء. ولأول مرة ربما في العالم، نرى صاروخاً يزيد ثمنه عن 30 ألف دولار يطلق على مربض لرشاش “دوشكا” لا يزيد سعره عن 3 آلاف دولار.
لم يكن التسليح فقط هو النقطة التي يجب التوقف عندها، فالهجوم الذي انطلق منذ يومين استغل وجود المنخفض الجوي لتحييد سلاح الطيران. ومن دون الهجوم على مدينة جسر الشغور، كان يمكن الاكتفاء بإحصاء أربعة مسارات متفاوتة الأهمية تحيط بالعملية السياسية في سوريا. جسر الشغور، التي تعرضت إلى غزو من تحالف "تركي ـ ارهابي"، وإلى احتلال تركي بالوكالة، تقوم به "جبهة النصرة" و"الجماعات التكفيرية" الأخرى، تفتح مساراً خامساً في الحرب على سوريا، يهدد كل المسارات الأخرى التي تبحث فيها المعارضة وحلفاؤها عن إعادة تشكيل صفوفها، سواء كان ذلك في مؤتمرات كازاخستان، أو السعودية، أو مصر، أو مع المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في جنيف، حيث يبدأ المبعوث اختبار إحياء رميم العملية السياسية خلال شهرين مفتوحين من المشاورات، لا تستثني، للمرة الأولى، ممثلي المجموعات المسلحة من كل الاتجاهات، إلا ما وضع منها على لائحة الإرهاب، مثل “داعش” أو “جبهة النصرة”.
فقد اكد مصدر دبلوماسي غربي في انقرة، ان رئيس الإستخبارات التركي هاكان فيدان هو من يقود الحرب على شمال سوريا ويدير شخصيا غرفة العمليات، في حين تتولى السعودية التمويل والتسليح. وبين المصدر ذاته ان عدد المشاركين في الحرب على الشمال السوري قارب الـ 12 ألف مقاتل وهم نتاج توحيد كل الجماعات التكفيرية التي كانت متواجدة سابقا في بعض مناطق الشمال وأضيف إليهم عدة آلاف دخلوا مباشرة من تركيا بعد أن تم تدريبهم على استخدام السلاح المتطور.
فعراب توحيد الجماعات التكفيرية المقاتلة هو رئيس جهاز الإستخبارات التركي الذي سبق وان استقال في شباط الماضي خوفا من ملاحقات دولية بتهمة التعامل ودعم تنظيم جبهة النصرة الإرهابي، تمهيدا لدخوله المعترك السياسي والإنتخابات النيابية باسم حزب الحرية والعدالة، إلا ان فيدان عاد عن قراره بعد أن حصل على ضمانات من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحصانة من دول غربية بعد ملاحقته شريطة أن يمضي في مشروعه لتوحيد المسلحين.
تقول مصادر في المعارضة السورية المزعومة إن التحضير للسيطرة على الشمال السوري بدأ منذ آذار الماضي، بعد إعادة هيكلة غرفة العمليات في إنطاكيا، وإن اللمسات الأخيرة وضعت على الخط خلال الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن نايف إلى أنقرة في السادس من نيسان الحالي. ويقول مسؤول سوري معارض يتابع العمليات العسكرية، إن أكثر من 20 ضابطاً من الاستخبارات السعودية رافقوا محمد بن نايف، ونسقوا العمليات مع الاستخبارات التركية.
تركيا أصدرت أكثر من ۱۰۰ الف جواز سفر مزور، وقد تولی داعش من خلال مكتبه "مركز زيتون بورنو" في مدينة اسطنبول التركية باصدار هذه الجوازات، اضافة الى الدعم المالي الهائل الذي قدمته تركيا لهذه الجماعات في الاونة الأخیرة. ويؤكد هذا الدعم المادي ما حصلت عليه القوات السورية في وقت سابق لدى تحريرها مناطق في مدينة ادلب، وجود وثائق دامغة تؤكد تورط تركيا والسعودية وقطر بدعم هذه الجماعات استخبارياً ومالياً وتسليحياً.
ويعتقد المراقبون ان التعاون التركي مع التنظيمات الارهابية بلغ حداً لا يمكن إخفاؤه أو التستر عليه، وقد تجلى هذا التعاون بوضوح من خلال منح الضباط المعارضين الهاربين من سوريا والعراق حق الإقامة في الاراضي التركية ودعمهم بالامكانات اللازمة لتدريب الجماعات المسلحة والمتطرفة بالاشتراك مع الاستخبارات الامريكية والاسرائيلية، وإرسال هذه الجماعات الى داخل الاراضي السورية لتنفيذ عمليات إجرامية تستهدف بالدرجة الاولى المدنيين والبنى التحتية لهذا البلد.
وتركيا تؤوي بعض الهاربين من سوريا ممن يسمون انفسهم “رجال دين” للترويج لسياساتها المخربة في المنطقة. ومن الدلائل الاخرى التي تؤكد تورط انقرة بدعم الجماعات الارهابية وبالخصوص الاعتداءات الاخيرة في انقرة، اللقاء الاخير الذي حصل بين “زهران علوش” زعيم ما يسمى “جيش الاسلام” المدعوم سعودياً مع عناصر الاستخبارات التركية في اسطنبول من أجل تنسيق الخطط الرامية الى إضعاف حكومة الرئيس السوري بشار الاسد وضرب القوات السورية ومهاجمة المؤسسات الحكومية والبنى التحتية لهذا البلد، والتي ادت حتى الآن الى مقتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين السوريين وتهجير ملايين آخرين من مناطق سكناهم بعد استهدافهم من قبل هذه الجماعات وترويعهم بشتى الاساليب الوحشية.
هذا الدعم التركي للجماعات الارهابية في المنطقة يدخل ضمن المساعي التي تبذلها حكومة رجب طيب اردوغان، لتوسيع نفوذها في الدول المجاورة واستعادة الهيمنة التركية على المنطقة كما كانت في زمن الامبراطورية العثمانية.
لكن الشعب السوري المقاوم وحكومته بقيادته الحكيمة، اثبتوا على مر السنوات الأربع قدرتهم على الصمود بوجه كل المؤمرات التي تحاك ضدهم، كما تواجه تركيا معارضة شديدة من قبل الشعب التركي ونخبه المثقفة الفاعلة التي ترفض هذه السياسة جملة وتفصيلا. وقد اندلعت الكثير من المواجهات بين قوات الامن التركية والشعب التركي خصوصاً طلبة الجامعات في كثير من مدن البلاد ولاسيما المحاذية للحدود السورية والعراقية بسبب رفضهم للسياسة التي تنتهجها حكومة اردوغان تجاه المنطقة، والتي انعكست سلباً على سمعة تركيا على الصعيدين الاقليمي والدولي، كما طالبت الاحزاب التركية المعارضة حكومة اردوغان بوقف دعمها للجماعات الارهابية وعدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول الاخرى وإقامة علاقات جيدة مع هذه الدول على اساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
لكن الحكومة التركية على ما يبدو، والتي مُنيت الجماعات الارهابية الموالية لها بهزائم سياسية وعسكرية منكرة في سوريا، لم تتعظ حتى الآن من الدروس والعبر التي أفرزتها التطورات الاقليمية والدولية والتي تؤكد جميعها على ضرورة احترام إرادة ومشاعر الشعوب وعدم دعم اعدائها بالمال والسلاح كما يحصل الآن في العديد من دول المنطقة. ومن هنا لابد من التأكيد على أهمية توحد جميع الجهود لمواجهة هذه السياسة المدمرة وعدم التراخي امام اي تحدٍ ارهابي مدعوم من قبل المعسكر الغربي وعملائه في المنطقة، كما ينبغي التحلي بالوعي والحذر الكامليْن ازاء هذه التحركات لتجنيب المنطقة المزيد من إراقة الدماء على يد الجماعات الارهابية والانظمة الرجعية الداعمة لها.