الوقت- مع الإعلان عن افتتاح أول سفارة لسوريا في عهد الحكومة الجديدة داخل العاصمة البريطانية لندن، برزت تساؤلات واسعة حول دلالات هذا القرار، وخاصة أنه جاء في وقت كانت فيه التوقعات تشير إلى أن أنقرة ستكون المحطة الأولى في إعادة بناء العلاقات الدبلوماسية السورية، هذا الحدث لم يكن خطوة بروتوكولية عابرة، بل يعكس رؤية جديدة تعمل الحكومة السورية على ترسيخها في سياستها الخارجية، ويكشف في الوقت ذاته عن تحولات إقليمية ودولية يصعب تجاهلها.
الحكومة السورية الجديدة أرادت، من خلال اختيار لندن كأول وجهة دبلوماسية، أن ترسل رسالة بأن سياستها الخارجية لم تعد محصورة في الإطار الإقليمي، وأنها تسعى منذ البداية إلى اختراق الساحة الدولية الكبرى واستعادة موقع سوريا كفاعل حاضر في العلاقات الدولية، فالانتقال مباشرة نحو دولة كبرى مثل بريطانيا يعكس رغبة في بناء اعتراف دولي ودعم سياسي يتجاوز حدود المنطقة المزدحمة بالتجاذبات والمصالح المتناقضة.
لماذا بريطانيا وليس تركيا؟ قراءة في خلفيات القرار
عند تحليل هذا الاختيار، نجد أن أسباباً متعددة تقف خلفه، أولها اعتبارات الشرعية الدولية، فافتتاح سفارة في لندن يعني أن الحكومة السورية الجديدة تخطو خطوة أولى نحو استعادة حضورها ضمن العواصم المؤثرة في القرار الدولي، فبريطانيا، رغم علاقاتها المتوترة سابقاً مع دمشق، تظل لاعباً أساسياً في القضايا الشرق أوسطية، وفتح صفحة جديدة معها يمنح الحكومة السورية مساحة أكبر للمناورة السياسية ويزيد من فرصها للحصول على دعم أو على الأقل تخفيف الضغوط.
ثاني الأسباب يتعلق بـ العلاقة المعقدة بين سوريا وتركيا، ورغم وجود ارتباطات جغرافية وسياسية عميقة بين البلدين، إلا أن المرحلة الحالية تحمل ملفات شائكة تتعلق بالحدود والوضع الأمني والوجود العسكري والقضايا الكردية، من هنا، قد ترى الحكومة السورية أنه من الأنسب الوصول إلى تركيا لاحقاً بعد ترتيب المشهد الدولي الأوسع، لأن التعامل مع تركيا يتطلب أرضية سياسية أكثر ثباتاً وتفاهمات أعمق قد لا تكون متوافرة فوراً.
ثالثاً، قد يكون القرار محاولة لإعادة ضبط بوصلة السياسة الخارجية السورية نحو توازن لا يميل بشكل كبير لدولة إقليمية واحدة، فالساحة السياسية السورية سابقاً تأثرت بدور دول إقليمية متضاربة المصالح، ولذلك يبدو أن الحكومة الجديدة تحاول بدء علاقاتها من قاعدة دولية بعيدة عن النزاعات الإقليمية، عبر فتح باب جديد مع دولة أوروبية محورية.
رسائل إلى الداخل والخارج: ما الذي تريد الحكومة السورية قوله؟
على المستوى الداخلي، أرادت الحكومة الجديدة أن تقدم هذا الافتتاح كدليل على قدرتها على التحرك دولياً وإعادة بناء الثقة مع المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة، هذه الخطوة تحمل في طياتها رسالة بأن سوريا بدأت تدخل مرحلة مختلفة، مرحلة إعادة تشكيل صورتها الخارجية والعمل على تحسين مكانتها السياسية.
أما على المستوى الخارجي، فإن الخطوة تحمل أكثر من رسالة، فمن جهة، تؤكد الحكومة السورية استعدادها للتواصل مع القوى الكبرى والانفتاح على الغرب، وهو ما قد يسهم في تخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها، ومن جهة أخرى، تشير إلى أن سوريا لا تريد أن تظهر كدولة متجهة بالكامل نحو محور واحد، بل دولة تبحث عن إعادة التوازن في علاقاتها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية.
كما يمكن اعتبار هذه الخطوة محاولة من الحكومة البريطانية نفسها للاستفادة من إعادة الانخراط مع دمشق، وخصوصاً في ملفات الهجرة والأمن الإقليمي والتوترات المستمرة في المنطقة، فوجود قناة دبلوماسية رسمية بين لندن ودمشق يمنح الطرفين إمكانية تبادل المصالح ومعالجة الملفات المشتركة بشكل مباشر.
البعد الاقتصادي لافتتاح السفارة وتأثيره على مستقبل إعادة الإعمار
لا يقف افتتاح السفارة السورية في لندن عند حدوده السياسية فقط، بل يمتد ليشمل أبعاداً اقتصادية تسعى الحكومة السورية الجديدة لإعادة تفعيلها بعد سنوات من الجمود، فوجود تمثيل دبلوماسي في دولة مؤثرة اقتصادياً مثل بريطانيا يفتح الباب أمام التواصل مع مؤسسات مالية دولية وشركات استثمارية مهتمة بملفات إعادة الإعمار، كما يتيح فرصة لتنشيط دور الجالية السورية في أوروبا، سواء عبر تحويلات مالية أو مشاركة في مشاريع تطوير البنية التحتية، بهذا المعنى، يمكن للخطوة أن تتحول إلى منصة اقتصادية داعمة تساعد سوريا على استعادة جزء من قوتها الإنتاجية والاقتصادية في المرحلة المقبلة.
انعكاسات القرار على مستقبل العلاقات الإقليمية والدولية لسوريا
من المتوقع أن تكون لهذه الخطوة تأثيرات طويلة المدى على موقع سوريا السياسي، إذ إنها تمهّد لعودة تدريجية إلى المشهد الدولي بعد سنوات من التوتر والصراع، فافتتاح سفارة في لندن يعني عملياً أن الحكومة السورية الجديدة بدأت تصنع مساراً دبلوماسياً يهدف إلى بناء الثقة وإعادة إدماج سوريا في النظام الدولي.
كما أن هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام دول أخرى في أوروبا لإعادة النظر في علاقاتها مع سوريا، وخاصة إذا تبعتها إجراءات سياسية أو أمنية تعكس استقراراً نسبياً داخل البلاد، وعلى الصعيد الإقليمي، من المرجح أن تتأثر العلاقات السورية التركية بهذه الخطوة، سواء بإبطاء أو تسريع مسار التقارب، تبعاً لكيفية قراءة أنقرة لهذا التوجه السوري.
في المحصلة، يمكن القول إن اختيار بريطانيا بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة في السياسة السورية، مرحلة تؤكد أن دمشق ترى مستقبلها من نافذة أوسع من الإطار الإقليمي المعتاد، إنها خطوة مدروسة تحمل رسائل متعددة، وتكشف عن رؤية دبلوماسية مغايرة تسعى الحكومة الجديدة لترسيخها في السنوات المقبلة، في إطار محاولة لإعادة تعريف الدور السوري على المستويين الإقليمي والدولي.
