الوقت- تشهد المؤسسة العسكرية التابعة للاحتلال الصهيوني أزمة داخلية غير مسبوقة، تتجلى في تزايد معدلات الانتحار بين صفوف الجنود والضباط منذ اندلاع الحرب على غزة، فحسب صحيفة هآرتس العبرية، أقدم ضابط كبير في وحدة الطائرات المسيّرة على إنهاء حياته بعد أن دعا إلى وقف الحرب قائلاً: «يجب إيقاف الحرب، فلتداعياتها أبعاد لا نفهمها بعد»، هذا الحدث ليس حالة فردية، بل يعبّر عن انهيار نفسي جماعي يضرب المؤسسة العسكرية التي طالما تباهت بانضباطها وقدرتها على الصمود.
تتحدث التقارير عن عشرات حالات الانتحار ومحاولاته، ما يعكس أزمة بنيوية عميقة في الروح القتالية والوعي الجمعي داخل جيش الاحتلال الصهيوني، المقال التالي يحلل هذه الظاهرة من أبعاد إنسانية، عسكرية، واجتماعية–إعلامية، كاشفًا أن ما يجري ليس مجرد أزمة نفسية، بل مؤشّر على فقدان المعنى والاتجاه بعد حرب تركت ندوبًا في الجسد والروح الصهيونية.
البعد النفسي
إن ارتفاع معدلات الانتحار داخل جيش الاحتلال الصهيوني يعكس هشاشة البنية النفسية للجنود الذين شاركوا في الحرب على غزة، حيث تحولت ميادين القتال إلى مسارح صدمة ممتدة، تقول هآرتس: «الأرقام صادمة وغير مسبوقة»، في إشارة إلى أن عشرات الجنود يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) والانهيار النفسي، لقد واجه هؤلاء الجنود مشاهد الدمار الإنساني، والأثمان الباهظة التي دفعها المدنيون، وهو ما ترك في نفوسهم شعورًا بالذنب والانكسار الأخلاقي، هذا الاضطراب الجماعي يكشف أن القوة العسكرية لا تكفي لصون التماسك الداخلي ما لم تكن هناك بوصلة قيمية، الانتحار هنا ليس مجرد هروب من الألم، بل تمرداً داخلياً على واقع عبثي فقد معناه، فحتى الضباط المخضرمون، ممن اعتادوا على إدارة الطائرات المسيّرة عن بُعد، لم يعودوا قادرين على تحمل التناقض بين “الآلة” و“الإنسان”، بين الطاعة العسكرية والضمير الأخلاقي، وهكذا يتحول الضغط النفسي إلى فعل احتجاجي صامت ضد حرب بلا أفق.
البعد العسكري
يواجه جيش الاحتلال الصهيوني أزمة عميقة في تماسكه الهيكلي، إذ إن ظاهرة الانتحار لم تعد مقتصرة على الجنود العاديين، بل وصلت إلى مستويات القيادة، ما يعني أن الخلل بدأ من الأعلى، الجيش الذي كان يوصف بأنه «الأقوى في الشرق الأوسط» يجد نفسه أمام انهيار في الروح المعنوية وارتفاع في معدلات العصيان والإجازات النفسية، الضباط الذين يُفترض أن يكونوا مثال الانضباط أصبحوا ضحايا للحرب ذاتها، هذا التحول يكشف فشل المؤسسة العسكرية في التعامل مع الضغط النفسي الناتج عن طول أمد العمليات، وتآكل مفهوم “النصر” بعد حرب لم تحقق أهدافها، إن الانتحار في هذه الحالة ليس ظاهرة فردية، بل مؤشراً على تصدع العقيدة القتالية الصهيونية التي تربط بين القوة والهوية، كما أن اتساع هذه الظاهرة يُنذر بضعف القدرة على التجنيد مستقبلاً، وتراجع ثقة الجنود بقيادتهم، إن الجيش الذي ينهار من الداخل لا يحتاج إلى عدو خارجي كي يُهزم، بل يسقط بثقل أزماته النفسية والهيكلية.
البعد الاجتماعي
تنعكس أزمة الانتحار العسكري على المجتمع في الكيان الصهيوني ككل، حيث بدأت علامات القلق الجماعي والاضطراب النفسي تظهر بوضوح، فالأسر التي فقدت أبناءها داخل الجيش تعيش صدمة مضاعفة: صدمة الحرب، وصدمة الانتحار، الإعلام العبري نفسه يعيش مأزقًا أخلاقيًا؛ إذ تحاول الرقابة العسكرية الحدّ من نشر الأرقام الحقيقية خوفًا من انهيار الثقة العامة بالمؤسسة العسكرية، غير أن صحفًا مثل هآرتس وكان بدأت تتحدث بصراحة عن “وباء صامت” يضرب صفوف جيش الاحتلال الصهيوني، هذه الأزمة تكشف حدود الدعاية الرسمية التي كانت تصوّر الحرب على غزة كـ«انتصار ضروري للأمن القومي»، فبينما كانت القيادة ترفع شعارات النصر، كان الجنود يعيشون هزيمة داخلية مروعة، إن المجتمع الصهيوني اليوم أمام مرآة قاسية تعكس ما بعد الحرب: صدمة، إنكار، واهتزاز في الإيمان بالمؤسسة العسكرية التي لطالما مثّلت جوهر الهوية الصهيونية، وهكذا يصبح الانتحار العسكري مرآة لانهيار سردية الكيان ذاته.
الانعكاسات المستقبلية
إذا كانت الانتحارات داخل جيش الاحتلال الصهيوني تعبّر عن أزمة آنية، فإن تداعياتها تمتد نحو المستقبل لتعيد رسم العلاقة بين المجتمع والجيش، المقارنة بين وضع الجيش قبل الحرب وبعدها تُظهر تحولًا من الثقة إلى الشك، ومن القوة إلى الهشاشة، قبل حرب غزة، كان الجيش يمثل رمز التفوق الأمني والعقائدي، أما بعدها فقد تحوّل إلى مؤسسة تبحث عن توازنها الداخلي.
من الناحية النفسية، يواجه الكيان الصهيوني ما يشبه “الفقد الجمعي للمعنى”، وهو ما يُترجم بانكفاء داخلي وانسحاب من الخدمة، بينما في البعد السياسي تتزايد الأصوات التي تطالب بمحاسبة القيادة على القرارات العسكرية التي أفضت إلى هذا الانهيار المعنوي، الحرب على غزة لم تترك ندوبًا في الوعي الفلسطيني فقط، بل فجّرت أزمة هوية داخل الوعي الصهيوني ذاته، إن معالجة هذه الأزمة تتطلب أكثر من برامج دعم نفسي، بل مراجعة شاملة للغطرسة العسكرية التي أنتجت حربًا فقد فيها الاحتلال توازنه الأخلاقي والإنساني معًا.
فشل المشروع الصهيوني
ما يجري اليوم داخل جيش الاحتلال الصهيوني لا يمكن فصله عن المسار الأوسع لفشل المشروع الصهيوني نفسه. فقد قامت العقيدة الصهيونية منذ بداياتها على وهم “القوة المطلقة” واحتكار التفوق، لكن الحرب على غزة كشفت أن هذا التفوق هشّ وأنه قائم على العنف لا على الاستقرار، فحين يبدأ الجنود بالانتحار، والقادة بالاعتراف بالعجز، فهذا يعني أن المشروع برمته يتآكل من الداخل.
المجتمع الصهيوني يعيش انقسامًا سياسيًا وأخلاقيًا حادًا، بين من يبرّر المجازر باسم الأمن، ومن يرى أن استمرار الاحتلال يهدد بقاء الكيان ذاته، لقد تحوّلت الحرب من وسيلة للسيطرة إلى مرآة للانهيار، وهكذا تتبدد صورة “الجيش الذي لا يُقهر” أمام واقع نفسي منهك وعقيدة فقدت بريقها، إن ما يحدث اليوم هو سقوط للأسطورة الصهيونية التي روّجت لنفسها لعقود ككيان منيع ومتماسك، لكنه في الحقيقة يقف على حافة الانهيار النفسي والسياسي، عاجز عن مواجهة الحقيقة: أن الاحتلال لا يُورّث أمنًا، بل دمارًا داخليًا دائمًاً.
في المحصلة، فإن موجة الانتحار داخل جيش الاحتلال الصهيوني ليست حادثًا عارضًا، بل إشارة إلى انهيار أعمق من أن يُخفى وراء لغة الأرقام، لقد تحوّل الانتحار من مأساة فردية إلى ظاهرة تكشف عن أزمة قيم ومعنى في كيان بنى هويته على التفوق العسكري والقهر النفسي للآخرين، الحرب على غزة كانت نقطة الانكسار الكبرى؛ فبينما انشغلت القيادة بالحديث عن “الأمن والردع”، كان الجنود يعيشون في صمتٍ جراحًا لا تُرى، الصحافة العبرية، رغم الرقابة، بدأت تدرك أن ما يحدث ليس مجرد إخفاق عسكري بل سقوط نفسي جماعي.
من هنا، فإن قراءة هذه الظاهرة يجب أن تتجاوز بعدها الإنساني لتصل إلى سؤال أعمق: كيف يمكن لجيشٍ يواجه نفسه أن يحمي كيانًا مأزومًا؟ إن التآكل النفسي الذي أصاب جنوده وضباطه قد يكون أخطر من أي تهديد خارجي، لأنه يضرب الأساس الذي تقوم عليه العقيدة الصهيونية ذاتها، وهكذا تصبح هذه الأزمة مرآة لزمن جديد، تُهزم فيه الجيوش لا في الميدان، بل في داخلها.
                            