الوقت- في تصريح أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، خرج المبعوث الأمريكي توم باراك بتصريحات صادمة حين أكد أن دول الخليج ليست موحدة، بل وصفها بأنها مجرد قبائل وقرى، مضيفاً إن فكرة الشرق الأوسط الموحّد وهمٌ صنعته القوى الاستعمارية عندما رسمت حدود الدول الحديثة، هذا التصريح الذي أدلى به خلال مقابلة مع شبكة الجزيرة جاء في توقيت حساس يشهد فيه الخليج والمنطقة عموماً تحولات سياسية وأمنية متسارعة، وهو ما جعل كلماته تلقى صدى واسعاً بين المراقبين، بين من اعتبرها انعكاساً لسياسة أمريكية جديدة تجاه المنطقة وبين من رأى فيها إهانة مباشرة للكيانات الوطنية القائمة.
خلفيات التصريح ومضمونه
وفقاً لما نشرته قناة الجزيرة ووكالة رويترز، فقد أوضح باراك أن الشرق الأوسط يضم سبعاً وعشرين دولة وأكثر من مئة مجموعة عرقية، وأن الحديث عن وحدة أو انسجام سياسي إقليمي هو أمر بعيد عن الواقع، مشيراً إلى أن واشنطن كثيراً ما وجدت صعوبة في بناء تفاهمات مشتركة بين هذه الدول في الملفات الكبرى، وأكد أن التعاطي مع الخليج سيكون أكثر فاعلية إذا جرى التعامل مع كل دولة على حدة بدلاً من النظر إليها ككتلة واحدة، وهو ما يعكس بشكل واضح تغيراً في مقاربة الإدارة الأمريكية التي لطالما روجت لشعار "الشركاء الخليجيين" في خطاباتها الرسمية.
ردود الفعل الغاضبة والمتباينة
ردود الفعل على هذه التصريحات جاءت متباينة، ففي حين وصفت بعض الصحف الخليجية كلام المبعوث الأمريكي بأنه استخفاف بكيانات مستقلة ذات سيادة وأنه يضرب في صميم مفهوم الوحدة الوطنية، رأت وسائل إعلام أخرى أن باراك لم يقل شيئاً جديداً سوى ما هو واقع بالفعل، حيث إن دول الخليج لم تكن على قلب رجل واحد في كثير من القضايا الحساسة. فالأزمة الخليجية التي اندلعت عام 2017 وامتدت ثلاث سنوات بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى، كشفت عن عمق الانقسامات السياسية داخل البيت الخليجي، وهو ما يجعل من الصعب الادعاء بأن المجلس يشكل وحدة صلبة، كما أن الاختلافات في المواقف من إيران أو من الحرب في اليمن أو حتى من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تبيّن بوضوح حجم التباينات في السياسات الخارجية لهذه الدول.
ما بعد غزة والتوازنات الإقليمية
إلى جانب ذلك، جاءت تصريحات باراك في وقت تسعى فيه واشنطن لإقناع بعض الدول الخليجية بلعب دور في ترتيبات ما بعد الحرب على غزة، سواء عبر المساهمة في إعادة الإعمار أو المشاركة في إدارة المرحلة الانتقالية هناك، وهو ما أوردته رويترز في تقريرها بتاريخ 19 سبتمبر 2025، وفي مثل هذه الظروف، يبدو أن الولايات المتحدة تحاول أن توصل رسالة مزدوجة: من جهة هي بحاجة إلى تعاون الدول الخليجية، ومن جهة أخرى تذكّرها بأنها ليست موحدة وبالتالي فإن التعامل مع كل دولة منفردة قد يكون السبيل الأفضل لتمرير الترتيبات الأمريكية في المنطقة.
استراتيجية “فرّق تسد”
من الناحية التحليلية، يمكن النظر إلى هذه التصريحات باعتبارها جزءاً من استراتيجية أمريكية لإعادة صياغة العلاقة مع الخليج بما يتناسب مع التحولات الدولية الراهنة، فالولايات المتحدة، التي تواجه تحديات كبرى في آسيا وأوروبا، لم تعد ترغب في تحمل أعباء أمنية وعسكرية ضخمة في الشرق الأوسط كما في السابق، لذلك فإن تقليل قيمة الوحدة الخليجية قد يمهد لتوجه أمريكي يقوم على انتقاء الشركاء بشكل فردي وفق المصالح، بعيداً عن محاولة بناء موقف خليجي موحد، هذا المنهج يمنح واشنطن مرونة أكبر في التفاوض، حيث تستطيع أن تلوّح لبعض الدول بخيارات أمنية أو اقتصادية، فيما تضغط على أخرى بأدوات مختلفة، دون أن تكون مضطرة للتعامل مع جبهة خليجية موحدة يصعب اختراقها.
مخاطر التصريحات الأمريكية على صورة واشنطن
لكن هذه المقاربة ليست بلا مخاطر، إذ إن وصف دول الخليج بأنها مجرد قبائل وقرى قد يترك انطباعاً سلبياً لدى شعوب المنطقة ويؤثر في صورة الولايات المتحدة كحليف استراتيجي، فالهوية الوطنية في دول الخليج ترسخت خلال العقود الماضية وأصبحت مصدر فخر لشعوبها، وأي خطاب يقلل من شأنها قد يُستقبل على أنه إهانة مقصودة، كما أن هذه التصريحات قد تدفع قادة الخليج إلى تعزيز التعاون فيما بينهم بدلاً من التراجع، إدراكاً منهم أن واشنطن تستفيد من الانقسامات لفرض أجندتها الخاصة، وفي هذا السياق، يرى محللون أن ما صدر عن باراك ربما كان تصريحاً غير محسوب العواقب، لكنه يعكس أيضاً حقيقة النظرة الأمريكية التي لا ترى في الخليج وحدة صلبة بقدر ما تعتبره مجموعة من الدول الصغيرة التي لا تستطيع الاستغناء عن المظلة الأمنية الأمريكية.
الواقع الخليجي بين التباينات والحاجة للوحدة
الواقع أن الخليج يواجه اليوم تحديات معقدة تتعلق بالأمن الإقليمي والاقتصاد والتحولات الاجتماعية، حيث تسعى هذه الدول إلى تنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط، وهو ما يتطلب استثمارات ضخمة وتعاوناً إقليمياً أوسع، في مثل هذا المشهد، فإن الوحدة أو على الأقل التنسيق بين هذه الدول ليس ترفاً بل ضرورة استراتيجية، وأي خطاب خارجي يقلل من أهميته قد يضعف من قدرتها على مواجهة التحديات المشتركة.
في النهايه، أن تصريحات المبعوث الأمريكي حول غياب الوحدة الخليجية هي تعبير عن رؤية سياسية أمريكية ترى في التباينات القائمة فرصة لإدارة علاقات أكثر مرونة مع كل دولة على حدة، لكنها في الوقت نفسه قد تترك آثاراً سلبية على صورة واشنطن في المنطقة، فإذا كانت الولايات المتحدة تسعى لإقناع دول الخليج بالمشاركة في ترتيبات ما بعد الحرب في غزة، فإن مثل هذه التصريحات قد تضعف الثقة وتثير الشكوك حول نواياها الحقيقية.
من جهة أخرى، قد تكون هذه التصريحات بمثابة جرس إنذار لدول الخليج بأن الطريق إلى تعزيز مكانتها الدولية يمر عبر مزيد من التنسيق والتكامل، لا عبر التشتت والانقسام، وبرأيي، فإن أفضل رد على كلام باراك ليس في البيانات الرسمية الغاضبة أو المواقف الإعلامية فقط، بل في خطوات عملية على أرض الواقع تُظهر أن الوحدة الخليجية ممكنة وأنها تشكل قوة تفاوضية أكبر بكثير من التفاوض الفردي، سواء في مواجهة واشنطن أو أي قوة دولية أخرى.