الوقت – في هذه الآونة التي تعجّ فيها ساحة بيروت بالافتراءات الباطلة والأقاويل المرسلة، يمكن للمتبصر أن يقتفي خيوط الأنباء المزعزعة لاستقرار لبنان فيما وراء تخومه، ولا سيما في دهاليز نظام أحمد الشرع في سوريا، ذلك النظام الذي تربّع على عرش دمشق بمباركة أمريكية سافرة وإيماءة صهيونية خفية، وبات يسعى جاهداً لاسترضاء أرباب تل أبيب بشتى السبل والوسائل، ومن تجليات هذا التزلّف، ما أذاعته وزارة الداخلية السورية في الأيام القليلة المنصرمة من تفكيك “خلية” زعمت انتماءها لحزب الله اللبناني والقبض على أفرادها.
وقد ادعى جهاز الأمن الداخلي السوري أن هذه المجموعة قد وقعت في قبضته في منطقتي “ساسا” و"كناكر" بريف دمشق، بيد أن حزب الله اللبناني نفى بشكل قاطع أي صلة تربطه بالعناصر المقبوض عليها في الريف الغربي لدمشق، مؤكداً أن التنظيم لا يضطلع بأي نشاط على الأراضي السورية البتة.
تلاقي المسارات بين أحمد الشرع ونتنياهو في استهداف حزب الله اللبناني
يبدو جلياً أن مزاعم أزلام أحمد الشرع بشأن اعتقال مجموعة تابعة لحزب الله، تمثّل مسعى متزامناً ومتناغماً مع تل أبيب للتضييق على حزب الله وإحكام الخناق عليه، وفي الوقت ذاته، تتوالى في لبنان الغارات الجوية التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني ضد قادة حزب الله على شاكلة “التصفيات المستهدفة”، في إطار عمليات عسكرية مكشوفة، وقد أفادت منابر إعلامية عدة، في طليعتها قناة الميادين، مساء الخميس المنصرم، بأن الطائرات الصهيونية أمطرت محيط قلعة ميس في بلدة أنصار جنوب لبنان بوابل من القذائف والصواريخ.
وفي فجر الجمعة، أقر جيش الاحتلال الصهيوني، عبر شريط مصور بثّه على منصة إكس، باستهداف “وسيم سعيد جبعي”، أحد أركان فرع “الإمام الحسين(عليه السلام)” التابع لحزب الله في جنوب لبنان، وقد اعترف الصهاينة صراحةً بأن “جبعي كان يضطلع بدور محوري في توجيه القوات، وكان الساعد الأيمن في جهود إعادة بناء هذا الفرع من حزب الله في الجنوب”.
توزيع الأدوار بين واشنطن وتل أبيب في مسرح بيروت
إذا كان الكيان الصهيوني يروم من خلال عملياته العسكرية وغاراته الجوية المتقطعة تكثيف الضغط على لبنان، فإن الأمريكيين في عقر دار بيروت قد اقتحموا ساحة المواجهة منذ شهر انقضى بمخطط يتستّر بقناع السياسة تحت مسمى “خطة باراك”.
برز “توم باراك” منذ صيف عام 2025 كمهندس للخطة الأمريكية الجديدة للبنان، وتسلّم زمام الإشراف على الملف اللبناني خلفاً لـ"مورغان أورتيغاس"، نائبة المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط، وقد حمل توم باراك في جعبته إلى بيروت ثلاث وثائق ومذكرات تشكّل حجر الزاوية في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه لبنان، وتتمحور هذه الوثائق حول نزع سلاح حزب الله وفق جدول زمني صارم وملزم، وتقويض أركان مؤسسة “القرض الحسن” باعتبارها الذراع المالية لحزب الله، والشروع على الفور في تجريد المخيمات الفلسطينية من سلاحها.
ويمثّل المحور الأبرز في المخطط الأمريكي ذلك الشقّ الذي يطالب بنزع سلاح حزب الله، والذي دخل مرحلةً جديدةً خلال الأسبوع المنصرم بعد إقراره في مجلس الوزراء اللبناني برئاسة “نواف سلام”، رغم عدم رسم جدول زمني لتنفيذ هذه الخطة، وتحذير الحكومة اللبنانية من قصور قدرات الجيش وعجزه عن تحقيق هذه الغاية.
وفي السياق ذاته، أطلق مبعوث ترامب تهديداً صريحاً بأن أي تباطؤ في تنفيذ هذه المطالب من قبل الحكومة اللبنانية، سيفضي إلى تعليق الدعم الدولي وحرمان لبنان من المساعدات المخصصة لإعادة الإعمار.
وحسب زعمه، في حال تعثر تنفيذ هذه الخطة، سيُمنح الكيان الصهيوني حرية التصرف المطلقة في الأراضي اللبنانية، وستتوقف المفاوضات الأمريكية-الإسرائيلية بشأن ترتيبات وقف إطلاق النار توقفاً تاماً، وهكذا، استحالت خطة باراك بشأن لبنان، إلى ما يشبه الإنذار العسكري أكثر منه خطة سياسية.
هذا في حين صرح “بول مرقص”، وزير الإعلام اللبناني، بوضوح أنه رغم سعي الجيش لتنفيذ خطة “حصر السلاح بيد الدولة” (وهي الخطة التي تستهدف تجريد حزب الله من سلاحه) وفقاً لقدراته اللوجستية والمادية والبشرية، إلا أن تنفيذ هذه الخطة قد يستلزم “وقتاً وجهداً يفوق المتوقع”.
آفاق الضغوط المتصاعدة على حزب الله
داخل لبنان، ترنو الأبصار في المشهد السياسي هذه الأيام نحو حكومةٍ تزعم من جانب تعزيز سيادة البلاد من خلال حصر السلاح بقبضة الجيش، بينما تلوذ بالصمت من جانب آخر إزاء الغارات الجوية المتتالية التي تشنها الطائرات الصهيونية متجاوزةً كل الأعراف والمواثيق.
حتى الهجوم الأخير الذي شنته الطائرات الصهيونية على مقر قادة حماس الفلسطينيين في الدوحة، عاصمة قطر، قد ألقى بظلاله على قضية نزع سلاح حزب الله في لبنان، وبات الكثيرون ينظرون بعين الريبة والحذر إلى مسألة تجريد الحزب من سلاحه.
وقد أكد هذا الأمر مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في قطر، الذي أفصح في تقرير ميداني عقب قصف الدوحة أن هذه الأحداث بمجملها صبّت في مصلحة إيران، وأن أولئك الذين كانوا بالأمس القريب يؤيدون نزع سلاح حزب الله في لبنان، باتوا اليوم غارقين في دوامة من التفكير والمراجعة.
وبعيداً عن هذه التطورات، فإن مسعى نزع سلاح حزب الله يصطدم بجدار من التحديات الهيكلية والجذور التاريخية المتأصلة في النسيج اللبناني، وقد رصد “المركز الديمقراطي العربي” (DAC GmbH)، وهو مؤسسة بحثية مرموقة تتخذ من الدنمارك مقراً لها وتختص بدراسات العالم العربي، في دراسة مستفيضة حول مشروع نزع سلاح حزب الله، جملةً من العقبات الكأداء التي ستقود عملياً إلى انسداد أفق هذه الخطة:
العائق الأول يتمثّل في أنه رغم العمليات الواسعة والثقيلة التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي لدكّ البنى التحتية لحزب الله، لا يزال هذا التنظيم يمتلك ترسانةً صاروخيةً وعسكريةً غير معلنة وممتدة الأطراف.
أما المعضلة الثانية فتتجلى في الانقسام السياسي والطائفي العميق في المجتمع اللبناني الفسيفسائي، وهي انقسامات أفضت إلى تباين حاد في وجهات النظر حول قضية نزع سلاح حزب الله، وأي خطوة تُتخذ دون توافق جامع بين مختلف الأطياف، ستكون محفوفةً بمخاطر الاحتراب الداخلي، وربما تؤجّج نار حربٍ أهلية لا تبقي ولا تذر. في الواقع، يرى قطاع کبير من الطائفة الشيعية في لبنان، التي تشكّل إحدى الركائز الثلاث الكبرى في نسيج البلاد، أن سلاح حزب الله درع حصين لأمنهم في مواجهة الآخرين، وهم غير مستعدين للانصياع للمخطط الأمريكي الذي تتبناه الحكومة، بل إن التقارير تشير إلى أن الجنود والقوات العسكرية من أبناء الطائفة الشيعية في الجيش اللبناني، الذين يشكّلون قرابة نصف قوام الجيش في البلاد، لا يبدون أي رغبة لتنفيذ خطة نزع سلاح حزب الله.
كما أن حالة انعدام الأمن والاضطراب المستشري على الحدود اللبنانية جراء استمرار الهجمات الجوية والمتقطعة من قبل "إسرائيل"، توفّر مسوغاً وافياً لحزب الله للتمسك بترسانته الصاروخية كرادع في وجه آلة الحرب الصهيونية.
ويذهب “أحمد عبد السلام الهورامي”، أستاذ العلوم السياسية في جامعة المستنصرية العراقية، إلى أن نزع سلاح حزب الله ليس مجرد قضية أمنية أو عسكرية أو سياسية محصورة داخل الإطار اللبناني، بل هي قضية جيوسياسية شديدة التعقيد تتشابك خيوطها مع التوازن الداخلي في لبنان، والمعادلات الإقليمية في الشرق الأوسط بأسره. وأي محاولة لحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، تستدعي رؤيةً شموليةً تمتد جذورها في الداخل والإقليم، وتتضمن إصلاحات سياسية جذرية، وتعزيز أركان المؤسسات الحكومية، وضمانات أمنية راسخة، ومظلة من الضمانات الإقليمية والدولية التي لا تقبل التأويل.