الوقت- مع اشتداد الصراع السوري، عادت تصريحات أحمد الشرع، رئيس الحكومة الانتقالية في سوريا، لتثير نقاشاً واسعاً، فقد شدّد الشرع في حوارات وتصريحات أخيرة على أنّ وحدة سوريا لا يجب أن تتحقق عبر القوة العسكرية وإراقة الدماء، بل عبر الحوار والتفاهم مع جميع الأطراف، بما في ذلك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبقية المكوّنات الاجتماعية والسياسية، هذه الرسالة تحمل في ظاهرها دعوة إنسانية ووطنية، لكنّها في المقابل تفتح أبواب أسئلة صعبة تتعلق بمدى احترام مختلف القوى الفاعلة لحقوق جميع السوريين، وخاصة العلويين الذين تعرّضوا خلال سنوات الحرب لجرائم استهداف وقتل وتهجير ممنهجة.
خطاب الشرع: وحدة لا تُفرض بالقوة
أكد الشرع أنّ الدولة السورية المقبلة لا بد أن تقوم على عقلية مختلفة، بعيدة عن منطق الثورات الدموية أو الصراعات العسكرية المستمرة، ومن هنا جاء تركيزه على التفاوض مع القوى الكردية وضرورة إيجاد صيغة تعايش مشترك، تضمن حقوق الجميع تحت مظلة وطنية جامعة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن الحديث عن وحدة وطنية جامعة في وقت تعرّض فيه مكوّن أساسي من الشعب السوري – وهو الطائفة العلوية – لجرائم وانتهاكات واسعة لم تحظَ بالاعتراف أو حتى التغطية الكافية؟
العلويون: مواطنون في مرمى الاستهداف
منذ اندلاع الأزمة السورية، تحوّل العلويون إلى هدف مباشر للعديد من الجماعات المسلحة المتطرفة التي رأت فيهم "خصماً طائفياً" أكثر من كونهم مواطنين سوريين، التقارير الحقوقية وثّقت جرائم مروّعة شملت مجازر في القرى الساحلية ذهب ضحيتها مئات من المدنيين الأبرياء، وعمليات خطف وقتل على الهوية لم تستثنِ نساءً وأطفالاً، إضافة إلى تهجير قسري لمجتمعات بأكملها من مناطق ريف اللاذقية وطرطوس.
هذه الجرائم لم تكن مجرد حوادث عرضية، بل عكست خطاباً إقصائياً أراد تصوير العلويين كجماعة غريبة أو "مسؤولة جماعياً" عن ممارسات السلطة، غير أن الحقيقة أبسط من ذلك: العلويون جزء أصيل من الشعب السوري، جذورهم ممتدة في تاريخ البلاد، وهم كغيرهم دفعوا أثماناً باهظة للحرب التي لم يختاروها.
التناقض بين الخطاب والواقع
تصريحات الشرع تبدو منطقية عندما تؤكد أن سوريا لن تُبنى بالدم، لكن الواقع الميداني يفضح مفارقة مؤلمة: الدم سال بالفعل، واستُهدف مكوّن كامل من السوريين لمجرد انتمائه المذهبي.
هنا يبرز السؤال: هل يمكن بناء وحدة وطنية دون الاعتراف بهذه الجرائم ومحاسبة مرتكبيها؟ وهل يكفي خطاب سياسي عام يدعو للحوار، إذا لم يترافق مع ضمانات حقيقية لعدم تكرار المآسي التي لحقت بالعلويين وغيرهم من المكوّنات المستضعفة؟
إن تجاهل معاناة العلويين أو تصويرهم كمجرد امتداد للسلطة القائمة، يُعد ظلماً مزدوجاً، ظلماً لمواطنتهم، وظلماً للذاكرة الجمعية السورية التي لا يمكن أن تستقيم إذا بُنيت على إنكار أو إقصاء.
المواطنة كشرط لوحدة حقيقية
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس فقط وقف إطلاق النار أو اتفاقات سياسية مؤقتة، بل إعادة صياغة العقد الاجتماعي على أساس المساواة التامة بين جميع السوريين، وحدة سوريا لن تتحقق إذا ظل بعض المواطنين يُعاملون كغرباء أو يُستهدفون بالقتل والتهجير لمجرد انتمائهم الطائفي.
العلويون، مثل السنة، والأكراد، والمسيحيين، والدروز، وسائر المكونات، يشكّلون معاً النسيج المتنوع للبلاد، وأي مشروع سياسي يتجاهل هذه الحقيقة أو يحاول اختزال سوريا في لون واحد أو طائفة واحدة محكوم عليه بالفشل.
بين الحوار والمصالحة الوطنية
لكي تكون تصريحات الشرع ذات معنى حقيقي، لا بد أن تتحوّل إلى برنامج عمل يقوم على الاعتراف بجميع الجرائم والانتهاكات التي وقعت خلال الحرب، بما فيها تلك التي استهدفت العلويين، وإطلاق عملية مصالحة وطنية حقيقية تشمل كل المكوّنات بلا استثناء، وبناء مؤسسات دولة محايدة لا تقوم على المحاصصة الطائفية بل على المواطنة المتساوية.
فالحوار مع قوات سوريا الديمقراطية أو غيرها من القوى مهم، لكنه لا يكفي ما لم يترافق مع إعادة الاعتبار لمئات الآلاف من الضحايا الذين دفعوا حياتهم ثمنًا للحرب والاقتتال.
نحو سوريا للجميع
إذا كانت وحدة سوريا هدفاً جامعاً، فإن الطريق إليها يمرّ عبر العدالة والاعتراف لا عبر الصمت أو الإنكار، إن العلويين، الذين فقدوا آلاف الأبرياء في مجازر وعمليات انتقام، هم جزء لا يتجزأ من هذا الوطن، ولا يمكن إقصاؤهم أو التعامل معهم كـ"قيمة تفاوضية" بين القوى السياسية.
تصريحات الشرع تفتح الباب لنقاش ضروري: هل نحن أمام مشروع وحدة حقيقية تُعيد للسوريين ثقتهم بأنفسهم كوطن واحد، أم أننا بصدد شعارات سياسية لا تتجاوز الخطاب؟
الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بمدى قدرة النخب السياسية على تحويل الأقوال إلى أفعال، وعلى مواجهة الحقائق المؤلمة للسنوات الماضية. وحدة سوريا لن تبنى على أنقاض جماعة ولا على دماء طائفة، بل تبنى على الاعتراف المتبادل، والمواطنة المتساوية، والعدالة التي تُعيد الحقوق إلى أصحابها.
في الختام، إن حديث الشرع عن وحدة سوريا دون دماء يبدو خطوة صحيحة، لكنه يظل ناقصاً ما لم يترافق مع اعتراف بمعاناة العلويين الذين استُهدفوا بالقتل والتهجير. فالوحدة الوطنية لا تُبنى على إنكار الضحايا، بل على العدالة والمصالحة، والتناقض الصارخ يظهر حين يقابل هذا الخطاب دعوات مثل خطابات الجولاني، التي ترفع شعار "تحرير سوريا" بينما تمارس الإقصاء ضد مكوّن أساسي من شعبها، فهل تكون سوريا وطناً للجميع فعلاً، أم تبقى أسيرة شعارات تتهاوى أمام أول امتحان للدم والهوية؟