الوقت- التحركات العسكرية الأخيرة لنظام الجولاني في سوريا، والتي تمثلت في إعادة تموضع قواته على الساحل الغربي، لا يمكن قراءتها كتحرك عابر، فبعد أن فرغ هذا النظام من مواجهة الهجمات الإسرائيلية، اختار أن يعيد توجيه آلته الحربية نحو الداخل، وبالتحديد نحو مناطق الساحل ذات الأغلبية العلوية. هذا التوجه يكشف أن الصراع لم يعد مقتصراً على خطوط التماس مع العدو الخارجي، بل أصبح يحمل بعداً داخلياً ذا طبيعة طائفية وسياسية في آن واحد.
البعد الطائفي في الاستهداف
الساحل السوري، منذ عقود، يُعتبر المعقل التقليدي للطائفة العلوية، ومنه استمد نظام الأسد شرعيته الأمنية والاجتماعية، وعليه، فإن استهداف هذه المنطقة اليوم يحمل في طياته بعداً انتقامياً من الحاضنة التاريخية للنظام السابق، استخدام عبارة "قمع العلويين" في التسريبات الإعلامية لا يبدو عابراً، بل رسالة واضحة مفادها بأن السلطة الجديدة تريد إخضاع هذه الطائفة وحرمانها من أي دور سياسي أو اجتماعي مستقل، هذه الاستراتيجية، وإن كانت تحقق مكاسب عسكرية مؤقتة، إلا أنها تنذر بانفجار داخلي طويل الأمد يصعب السيطرة على تبعاته.
الأبعاد السياسية للتحرك
بعيداً عن الجانب الطائفي، فإن الجولاني يسعى لإثبات أنه الرجل الأقوى في سوريا ما بعد الأسد، وأنه قادر على السيطرة على كل بقعة جغرافية بما في ذلك المعاقل الحساسة، إعادة نشر القوات على الساحل تمثل رسالة مزدوجة، الأولى موجهة للداخل السوري مفادها بأن لا منطقة محصنة ولا جماعة محمية خارج سلطة الدولة الجديدة، أما الرسالة الثانية فهي للخارج، وتحديداً الدول الإقليمية والدولية، التي تتابع المشهد عن كثب، النظام الجديد يريد أن يظهر نفسه لاعباً لا يُستهان به، يفرض الأمن عبر القوة إن لزم الأمر، ولا يتردد في استخدام الآلة العسكرية لضبط أي تمرد.
البعد الرمزي للساحل
الساحل السوري ليس مجرد منطقة جغرافية عادية، بل هو رمز سياسي وثقافي، فمنه انطلقت عائلة الأسد لترسيخ حكمها، وفيه بُنيت صورة الدولة المركزية التي اعتمدت على الجيش والأجهزة الأمنية، ولذلك فإن السيطرة على الساحل من قبل الجولاني تعني عملياً نزع آخر رموز الماضي وتفكيك القاعدة الاجتماعية التي طالما ارتبطت بالنظام القديم، هذا البعد الرمزي يفسر الإصرار على استخدام القوة المفرطة في هذه المنطقة دون غيرها.
انعكاسات على النسيج الاجتماعي
إن توجيه آلة الحرب إلى الساحل لن يمر دون تداعيات على المجتمع السوري، فالمجتمع، المثقل أصلاً بالحروب والانقسامات، يجد نفسه أمام فصل جديد من الصراع الطائفي، العلويون الذين عاشوا لعقود في موقع الحاضنة للسلطة باتوا اليوم في موضع المستهدف، وهذا يفتح الباب أمام احتمالات الهجرة الجماعية، أو تشكيل مجموعات مسلحة للدفاع الذاتي، ما قد يدخل البلاد في دورة جديدة من العنف. هذه الانقسامات تعمق الشرخ بين المكونات السورية وتبعد أي إمكانية لحوار وطني شامل.
الموقف الإقليمي والدولي
من وجهة نظر إقليمية، فإن هذا التحرك يثير قلق روسيا التي كان لها نفوذ تقليدي في الساحل السوري، ففقدان السيطرة على هذه المنطقة يعني تراجع مكانة موسكو وغياب الحلفاء المحليين الذين اعتمدت عليهم لعقود، أما بالنسبة للمجتمع الدولي، فإن مشاهد قمع العلويين – إذا ما تحققت على الأرض – ستثير موجة جديدة من الانتقادات والضغوط، وربما تُستخدم ذريعة لإعادة فرض عقوبات أو حتى للتدخل الإنساني، الغرب تحديداً سيراقب الوضع عن قرب، لأنه يدرك أن أي إبادة أو تهجير جماعي سيعيد إنتاج أزمات اللاجئين وعدم الاستقرار في المنطقة.
قراءة في استراتيجية الجولاني
من الواضح أن الجولاني يعتمد سياسة تقوم على الدمج بين البراغماتية السياسية والقبضة الأمنية الصارمة، غير أن هذه السياسة لا تحقق النجاح، لأنها لا تؤدي إلى بناء استقرار حقيقي، بل تفتح أبواباً جديدة للصراع. فالرهان على القوة وحدها يعمّق الانقسام المجتمعي ويزيد من شعور الطوائف المستهدفة بالخوف والعداء، الأمر الذي يولّد بؤر مقاومة جديدة بدل أن يُخمدها، ومع غياب أي مشروع سياسي جامع أو رؤية واضحة لمستقبل البلاد، تتحول هذه الاستراتيجية إلى عبء على النظام نفسه، إذ تدفعه إلى دوامة متواصلة من القمع والعنف من دون أن تضمن ولاءً دائماً أو شرعية مستقرة.
مستقبل العلاقة بين الطوائف
إذا استمر استهداف الساحل كمنطقة "متمردة"، فإن العلاقة بين العلويين وبقية المكونات السورية ستدخل مرحلة من العداء المفتوح، سيشعر العلويون بأنهم باتوا ضحايا جماعيين لعقاب سياسي، وهذا قد يدفعهم إلى التشبث بهويتهم الطائفية أكثر من أي وقت مضى، مثل هذا التحول سيقوض أي مشروع وطني جامع ويؤدي إلى إعادة إنتاج الطائفية بأبشع صورها، من هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة مختلفة، تقوم على المصالحة والتسويات السياسية، لا على القمع الممنهج.
في الختام، استقرار آلة الحرب السورية على الساحل الغربي ليس مجرد خبر عابر، بل حدث يختصر ملامح المرحلة المقبلة في سوريا، فالنظام الجديد بقيادة الجولاني اختار أن يبدأ من النقطة الأكثر حساسية، ليؤكد أنه قادر على إخضاع الخصوم بالحديد والنار، غير أن هذه السياسة، مهما حققت من مكاسب عسكرية سريعة، قد تتحول إلى عبء سياسي وأمني في المستقبل القريب، لأنها تزرع بذور مواجهة طائفية تهدد بتمزيق ما تبقى من النسيج الاجتماعي السوري. الطريق نحو الاستقرار الحقيقي لا يمر عبر الدبابات ولا عبر حملات القمع، بل عبر حوار وطني شامل يضمن العدالة والمساواة لكل المكونات، بما فيها العلويون الذين أصبحوا اليوم في دائرة الاستهداف.