الوقت- بينما يعيش سكان قطاع غزّة واحدة من أحلك الأزمات الإنسانية في التاريخ المعاصر، مع نقص حاد في الغذاء والدواء والمياه، تتصدر الأخبار قصة غير متوقعة، "إسرائيل" تقوم بإخلاء مئات رؤوس الحمير من القطاع، تحت مسمى “عملية إنقاذ إنسانية”.
الخبر، الذي بدا للكثيرين أقرب إلى مشهد سريالي، أثار جدلاً واسعاً، ليس فقط لأنه يضع الحيوانات في قائمة الأولويات على حساب البشر، بل لأنه يأتي في سياق حرب مدمرة يُتهم فيها الجيش الإسرائيلي بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين.
العملية: إخراج الحمير بترتيبات “خاصة”
وفق ما ورد في التقارير، جرى تنظيم عمليات إخلاء مئات الحمير من قطاع غزّة على دفعات، مستخدمين ترتيبات لوجستية متقدمة، شملت رحلات جوية وعبور عبر نقاط عسكرية، ثم نقلها إلى مزارع في دول أوروبية، وخصوصاً في فرنسا، بعض الرحلات وُصفت بأنها “فرست كلاس” للحيوانات، مع توفير رعاية بيطرية متكاملة طوال الطريق.
المسؤولون الإسرائيليون والجهات المنظمة للعملية قدموا هذه الخطوة على أنها “عمل إنساني بحت، بعيد عن السياسة”، مؤكدين أن الهدف حماية هذه الحيوانات من الموت جوعاً أو الإصابة في مناطق النزاع.
ردود الفعل الغاضبة: الإنسانية الانتقائية
لم تمر هذه الأخبار مرور الكرام، ناشطون فلسطينيون وداعمون للقضية على مستوى العالم اعتبروا ما جرى “سخرية من المعاناة الإنسانية”، كيف يمكن لـ"إسرائيل" أن توفر ممراً آمناً وخدمات متقدمة للحيوانات، بينما تمنع في المقابل إدخال المساعدات الغذائية والدوائية إلى مئات آلاف المحاصرين في القطاع؟
الانتقادات ركزت على مفهوم “الإنسانية الانتقائية”، أي انتقاء مواقف الرحمة في سياقات معينة، بينما يتم تجاهل أبسط حقوق الإنسان في سياقات أخرى، بالنسبة لكثيرين، العملية بدت كأنها رسالة سياسية ساخرة: “نهتم بالحيوانات أكثر من البشر هنا”.
البعد السياسي والإعلامي للحدث
من منظور سياسي، هذه الخطوة تحمل أكثر من وجه، فمن جهة، قد تستخدمها "إسرائيل" للترويج لصورة “جيش رحيم” في بعض وسائل الإعلام الغربية، مستغلة الحساسية المجتمعية هناك تجاه حقوق الحيوان، ومن جهة أخرى، تُعد العملية أداة دعائية مضادة للروايات التي تصف "إسرائيل" بأنها تنتهك القانون الإنساني الدولي.
لكن تأثير هذه الرواية يبدو محدوداً، إذ إن التناقض الصارخ بين إخراج الحيوانات وترك البشر للموت جوعاً يجعلها عرضة للسخرية والانتقاد، حتى داخل بعض الأوساط الغربية.
التناقض الإنساني: بين الرحمة والعقاب الجماعي
الحدث يفتح نقاشاً أوسع حول مفهوم الرحمة في أوقات الحرب، فالقانون الدولي الإنساني يفرض حماية المدنيين قبل أي اعتبار آخر، وتوفير الممرات الآمنة للجرحى والمرضى والنساء والأطفال، لكن الواقع في غزة يعكس صورة مغايرة: نقص في الغذاء، انهيار النظام الصحي، قصف متواصل، وإغلاق للمعابر.
حين يتم منح “الأولوية اللوجستية” للحمير، بينما يبقى آلاف المرضى بانتظار إذن للخروج لتلقي العلاج، فإن الرسالة الضمنية تبدو أكثر قسوة من أي تصريح رسمي، إنها ليست مجرد مفارقة، بل دليل على سياسة تُظهر حساسية انتقائية تجاه الكائنات الحية، بناءً على معايير سياسية لا إنسانية.
دور الإعلام الغربي: تضخيم أو تجاهل؟
المثير أن بعض وسائل الإعلام الغربية تناولت الخبر بطريقة محايدة أو حتى إيجابية، مسلطة الضوء على “إنقاذ الحيوانات” من ويلات الحرب، دون الخوض العميق في المفارقة الأخلاقية، في المقابل، وسائل إعلام أخرى انتقدت العملية، معتبرة أنها محاولة “غسل صورة” إسرائيل عبر ملف حقوق الحيوان، بينما الواقع على الأرض يشهد انتهاكات موثقة بحق المدنيين.
هنا يظهر البعد الإعلامي في النزاعات: انتقاء القصص التي تثير تعاطف الجمهور، حتى لو كانت تلك القصص تخفي خلفها مآسي أكبر وأعمق.
رسائل موجهة للخارج والداخل
من الناحية الاستراتيجية، قد تكون هذه العملية جزءاً من رسائل موجهة إلى جمهورين مختلفين:
للخارج: تقديم صورة “إسرائيل الإنسانية” التي تهتم حتى بالحيوانات في مناطق النزاع.
للداخل الإسرائيلي: تعزيز رواية أن الجيش يقوم بعمليات مدروسة لا تستهدف الكائنات غير المقاتلة، في محاولة لتخفيف الانتقادات الداخلية أو الدولية.
لكن هذه الرسائل تتعرض لتشويش قوي بفعل حجم الكارثة الإنسانية في غزة، حيث يصعب على أي حملة دعائية أن تطغى على مشاهد الجوع والدمار.
البعد الأخلاقي: من أولى بالحياة؟
القضية هنا ليست فقط في نقل الحمير، بل في ترتيب الأولويات الأخلاقية في أوقات الحرب، فلو تم نقل مئات المدنيين من غزة إلى مناطق آمنة بنفس السلاسة التي نُقلت بها الحيوانات، لكان الوضع الإنساني أقل مأساوية بكثير.
إنقاذ الحيوان عمل نبيل في ذاته، لكن حين يُقدَّم كأولوية على حياة الإنسان، يتحول إلى فعل مثير للجدل، بل وربما إلى أداة سياسية لإعادة صياغة صورة الفاعل في أذهان الرأي العام.
مفارقة تفضح الواقع
إخراج مئات الحمير من غزّة بترتيبات متقنة، بينما يموت البشر جوعاً أو من نقص الدواء، ليس مجرد خبر طريف أو غريب، بل هو مرآة لواقع شديد القسوة، الحدث يكشف عن تناقض صارخ في أولويات “الرحمة” في زمن الحرب، ويضع أسئلة صعبة أمام المجتمع الدولي: إذا كان من الممكن توفير الممرات الآمنة والرحلات المنظمة للحيوانات، فلماذا لا تُوفّر ذات الشروط للبشر؟
في النهاية، يظل هذا الخبر شاهداً على أن المأساة في غزة ليست فقط في القصف والحصار، بل أيضاً في المفارقات التي تعكس عالماً يختار أحياناً أن يكون “إنسانياً”... لكن فقط عندما لا يكون الأمر متعلقاً بالإنسان.