الوقت - في أتون الحرب المشتعلة التي استعرت نيرانها لاثني عشر يوماً بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني، والتي اندلعت شرارتها الأولى في الثالث والعشرين من يونيو 2025، أطلقت إيران سيلاً جارفاً من الصواريخ الباليستية التي انهالت كالمطر على مواقع الكيان الصهيوني في أرجاء فلسطين المحتلة، هذه الملحمة النارية، التي تُعد أشرس المواجهات المباشرة بين إيران والكيان الصهيوني وأعتى معركة يخوضها هذا الكيان في تاريخه الممتد على مدار سبعة وسبعين عاماً من الاغتصاب والعدوان، اشتعل فتيلها إثر اعتداءات الكيان الصهيوني الغادرة على الأراضي الإيرانية.
وفي أعقاب الهجمات الصهيونية الآثمة، انتفضت إيران انتفاضة الأسد الجريح، فأمطرت سماء الكيان بوابل من الصواريخ البالستية والطائرات المسيّرة التي انهمرت بالمئات على أهداف استراتيجية في الأراضي المحتلة، فطالت تل أبيب وحيفا ومناطق استراتيجية كمرتفعات الجولان والقواعد العسكرية والأمنية والمراكز الاقتصادية ومجمعات التكنولوجيا، رداً على غطرسة الكيان وعدوانه السافر.
وعلى الرغم من استنفار منظومات الدفاع الصهيونية كالقبة الحديدية وصواريخ “حيتس” (السهم) لاعتراض هذه الهجمات، فإن طوفان الصواريخ الإيرانية بدقتها المتناهية وكثافتها المذهلة حطّم هذه المنظومات وأفقدها فاعليتها، وفي غمرة هذه الهجمات الكاسحة، تهاوت مراكز استراتيجية تحت وطأة الضربات القاصمة، فدُمرت قواعد عسكرية محورية، من بينها قاعدة “نيفاتيم” الجوية ومنشآت الرادار في “جلسوز”، كما التهمت ألسنة اللهب البنى التحتية العلمية مثل معهد “وايزمان” ومجمعات التكنولوجيا في “رحوفوت”.
ولم تسلم مراكز القيادة في تل أبيب من سياط العقاب، مما كبّد الكيان خسائر بشرية ومادية فادحة أثقلت كاهله، وقد قدّرت مصادر مستقلة الخسائر الاقتصادية التي تجرعها الكيان بعشرات المليارات من الدولارات، وكشفت القناع عن هشاشة دفاعاته أمام صولة القدرة الصاروخية الإيرانية.
هذا الاستعراض المهيب للقوة الإيرانية، الذي نُفذ بتنسيق وقيادة متقنة من القوات المسلحة، لم يُركع الكيان الصهيوني فحسب، بل حطّم هيبته العسكرية المزعومة وأسقطها في وحل الذل أمام أنظار العالم، وانتهت الحرب في الثالث من يوليو 2025 بوقف لإطلاق النار بوساطة أمريكية، غير أن تداعيات هذه الهزيمة النكراء للكيان والتفوق الاستراتيجي الإيراني، ما زالت تلقي بظلالها الثقيلة على المنطقة والعالم.
وفي تعليقه على حرب الأيام الاثني عشر بين إيران والكيان الصهيوني، قال جون ميرشايمر، العالم البارز في العلاقات الدولية ومنظّر الواقعية الهجومية والمحلل الأمريكي: “لقد استعرضت إيران في حرب الأيام الاثني عشر نموذجاً فريداً من القوة الصلبة المحلية الصنع، لم تُقعد "إسرائيل" فحسب، بل أضعفت أيضاً قدرة الردع الأمريكية في المنطقة، إن تدمير البنى التحتية الاستراتيجية لإسرائيل، مثل معهد وايزمان ومصانع إنتل، كان ضربةً غير مسبوقة لاقتصاد إسرائيل وسمعتها”.
كما کتب دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، كلمات اعتراف مرة بقوله: “لقد تلقت إسرائيل ضربةً موجعةً للغاية، وخصوصاً في الأيام الأخيرة، تعرضت إسرائيل لضربة قاسية حقاً، يا إلهي، لقد دمرت تلك الصواريخ البالستية الكثير من المباني”.
وما يجدر ذكره أنه وباعتراف وسائل الإعلام الدولية وكذلك الخبراء والمستخدمين الناطقين بالعبرية، لا تزال منظمة الرقابة العسكرية التابعة لجيش الكيان الصهيوني تمارس رقابةً حديديةً على تفاصيل وحجم الأضرار التي لحقت بهذا الكيان جراء الهجمات الإيرانية، في محاولة يائسة لحجب الأبعاد الكاملة للخسائر الفادحة.
قاعدة “زيبوريت”
تتربع قاعدة “زيبوريت” العسكرية على عرش أهم قواعد جيش الكيان الصهيوني، وتتبوأ مكانةً مرموقةً بوصفها مرکزاً لإعادة بناء وصيانة المعدات العسكرية، وخاصةً المركبات المدرعة كدبابات “ميركافا” الفتاكة وناقلات الجند المدرعة من طرازي “نمر” و"إيتان"، تجثم هذه القاعدة الاستراتيجية بالقرب من الناصرة العليا في شمال فلسطين المحتلة، وتضطلع بدور محوري في نسيج الدعم اللوجستي والفني للقوات البرية التابعة لجيش الاحتلال.
وفي حقيقة الأمر، تُعد هذه القاعدة، رغم الستار الكثيف من التعتيم الإعلامي المحيط بها، درة تاج المنشآت اللوجستية والفنية للقوات البرية في جيش الكيان الصهيوني.
تأسيس القاعدة وتطويرها
في عام 2018، شهدت الأرض المحتلة حفل وضع حجر الأساس لتوسيع هذه القاعدة بحضور كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين في الكيان الصهيوني، يتقدمهم وزير الدفاع آنذاك، أفيغدور ليبرمان. وكان الهدف المنشود من هذا التوسع الطموح، تحويل “زيبوريت” إلى منارة متقدمة لإنتاج وصيانة المعدات العسكرية.
الوحدات المتمركزة
على الرغم من الضباب الكثيف الذي يلفّ المعلومات الرسمية من الكيان الصهيوني حول هذه القاعدة، فإن تسريب المعلومات وتحليلات المصادر العبرية والأجنبية تميط اللثام عن كونها قلعةً لوجستيةً وفنيةً ذات أهمية قصوى لجمع وصيانة وتطوير المعدات المدرعة، وتتجلى أهميتها في:
صيانة وتطوير دبابات “ميركافا” الفتاكة وناقلات الجند المدرعة من طرازي “نمر” و"إيتان"، التي تمثّل العمود الفقري للقوة البرية الصهيونية،
استخدام هذه القاعدة كمشفى حربي للمركبات المدرعة المتضررة في ساحات الحرب، بما في ذلك المعدات المدرعة العائدة من حرب غزة أو الضفة الغربية بجراحها البليغة.
الاضطلاع بدور الشريان الحيوي للدعم اللوجستي للقوات البرية في الشمال، بما في ذلك تدريب وحدات الاحتياط، وتوزيع المعدات والوقود والإمدادات، وتشير التقييمات الاستخباراتية إلى نسج خيوط تعاون محدود بين هذه القاعدة والصناعات العسكرية الصهيونية (IMI Systems) لتطوير قطع وتقنيات متعلقة بالمركبات المدرعة.
تتربع على عرش مراكز ما يُعرف في جيش الاحتلال باسم “الاستخبارات الميدانية الشمالية”، لتكون عين الكيان الساهرة على حدوده الشمالية.
تتبوأ مكانةً متقدمةً في جمع المعلومات، وإدارة الصور الجوية، والتتبع عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، وتحليل المعلومات المتعلقة بالجبهتين اللبنانية والسورية، لتكون بمثابة مركز العقل المدبر للعمليات في الشمال.
ونظراً لموقعها الاستراتيجي، يرجّح أن تحتضن هذه القاعدة بين جنباتها وحدات من قسم استخبارات جيش الكيان الصهيوني (أمان) إلى جانب فروع من الوحدة 8200 المتخصصة في التنصت والتجسس الإلكتروني، ما يجعل هذه القاعدة جوهرةً في تاج هيكل القيادة والسيطرة العسكرية في الشمال.
الأهمية الاستراتيجية
مركز إنتاج وصيانة المعدات المدرعة: تتوج “زيبوريت” على عرش المراكز الرئيسية لإنتاج وإصلاح دبابات “ميركافا” وغيرها من المعدات المدرعة لجيش الاحتلال، وتلعب هذه القاعدة، بفضل قدرتها الفائقة على إنتاج وإعادة بناء المعدات المتطورة، دوراً حيوياً في الحفاظ على القدرة العملياتية للمدرعات الصهيونية.
وما يزيد من قيمتها الاستراتيجية أنها تتربع على صهوة تلة شامخة تشرف على مساحات شاسعة من شمال فلسطين، ما يمنحها ميزةً استراتيجيةً فريدةً في الرصد والمراقبة.
كما أنها تقف على مقربة من عدة قواعد أخرى تشكّل في مجموعها ما يُسمى “الجدار الأمني الشمالي” الذي شيّده الكيان الصهيوني على الحدود مع لبنان، في محاولة يائسة لصدّ ضربات المقاومة.
دعم العمليات البرية: تنهض هذه القاعدة كمركز لوجستي يدعم وحدات المدرعات والمشاة في مختلف الجبهات، وخاصةً في الجبهة الشمالية المشتعلة في مواجهة تهديدات حزب الله اللبناني وغيره من فصائل المقاومة.
الموقع الجغرافي
إن تربع “زيبوريت” في المنطقة الشمالية من فلسطين المحتلة، على مقربة من الحدود اللبنانية، حوَّلها إلى هدف استراتيجي ثمين في مرمى نيران أعداء الكيان الصهيوني، ويتيح هذا الموقع الفريد إمكانية الاستجابة السريعة للتهديدات في الجبهة الشمالية، لكنه في الوقت نفسه يجعلها فريسةً سهلةً للهجمات الصاروخية أو المسيّرة.
تقع قاعدة “زيبوريت” بالقرب من مدينة الناصرة العليا، في قلب منطقة الجليل شمال الكيان الصهيوني، وتتميز هذه القاعدة، بفضل قربها من شرايين الطرق الرئيسية والبنية التحتية العسكرية، بقدرتها على نقل المعدات بسرعة إلى مناطق العمليات، ونظراً لأهميتها الاستراتيجية البالغة، فإن هذه القاعدة مدججة بأنظمة دفاعية متطورة مثل منظومة القبة الحديدية للتصدي للهجمات الصاروخية.
کما تقع هذه القاعدة على مقربة من منشآت مدنية مثل مسبح “هوشايا” وبالقرب من قمة جبل “هوشايا”، في تجسيد صارخ لسياسة الكيان في المزج بين الأهداف العسكرية والمدنية في المنطقة نفسها، متخذاً من المدنيين دروعاً بشريةً.
الهجوم الإيراني في حرب الأيام الاثني عشر
في خضم حرب الأيام الاثني عشر، أعلنت القوات المسلحة الإيرانية عن توجيه ضربات صاروخية محكمة استهدفت قواعد عسكرية تابعة للكيان الصهيوني، من بينها قاعدة “زيبوريت” الاستراتيجية، وهو ما اضطرت مصادر ناطقة بالعبرية وجيش الكيان الصهيوني إلى الإقرار به رسمياً، في اعتراف ضمني بفداحة الخسائر.
إن استهداف هذه القاعدة الحيوية يضرب في صميم قدرة الكيان الصهيوني على إصلاح وتجهيز المعدات المدرعة، وهو أمر بالغ الخطورة في المواجهات البرية المحتدمة على جبهتي لبنان وغزة، ويعكس هذا الاختيار الاستراتيجي الدقيق، تركيز إيران على توجيه ضرباتها إلى مفاصل البنية التحتية العسكرية الرئيسية للكيان.
نُفذت هذه الضربات الموجعة، وخاصةً في عمليات “الوعد الصادق 3”، بهدف ضرب قلب البنية التحتية العسكرية الأساسية للكيان الصهيوني، وكان لاستهداف قاعدة “زيبوريت”، نظراً لدورها المحوري في دعم المعدات المدرعة، أثر بالغ في إحداث شلل في القدرة العملياتية لجيش الكيان الصهيوني.
ومع ذلك، فإن المعلومات الدقيقة حول حجم الدمار الذي حلّ بهذه القاعدة، تظل محجوبةً خلف ستار كثيف من الرقابة العسكرية التي يفرضها الكيان الصهيوني، لكن الثابت والمؤكد هو أن صواريخ إيران الدقيقة قد أصابت هدفها بدقة متناهية، مخلِّفةً وراءها دماراً هائلاً.
تبقى قاعدة “زيبوريت”، بسبب دورها المحوري في إنتاج وصيانة المعدات المدرعة وموقعها الاستراتيجي في شمال فلسطين المحتلة، جوهرةً ثمينةً في تاج الأهداف التي استهدفتها الصواريخ الإيرانية، وقد جعلت أهمية هذه القاعدة في دعم العمليات البرية وقربها من الجبهة الشمالية منها هدفاً حساساً لمحور المقاومة.