الوقت- في تصعيد غير مسبوق للخطاب العدائي الأمريكي تجاه الشعب الفلسطيني، دعا عضو الكونغرس الأمريكي عن الحزب الجمهوري، راندي فاين، إلى قصف قطاع غزة بالقنابل النووية، معتبراً أن "القضية الفلسطينية شريرة"، مشبهاً الصراع مع المقاومة الفلسطينية بالحرب العالمية الثانية، حين أسقطت الولايات المتحدة القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي، ليست هذه الدعوة مجرد انفعال فردي؛ بل إنها تمثل جزءاً من منظومة خطاب متطرف ومنحاز ترعاه مؤسسات سياسية وإعلامية أمريكية رفيعة، وتُعبّر عن دعم مطلق لـ"إسرائيل" في عدوانها المستمر على قطاع غزة منذ الـ 7 من أكتوبر 2023، والذي وُصف مراراً من منظمات دولية وعشرات خبراء القانون الإنساني بأنه "إبادة جماعية ممنهجة".
تصريحات نووية تقود إلى الجحيم
في لقاء عبر قناة "فوكس نيوز"، قال فاين صراحة إن على الولايات المتحدة أن تتعامل مع قطاع غزة كما تعاملت مع اليابان في الحرب العالمية الثانية، أي عبر الإبادة النووية، مكرراً المقارنة نفسها التي استخدمها من قبل السيناتور الجمهوري المعروف ليندسي غراهام، الذي طالب بتكرار سيناريو هيروشيما وناغازاكي، قائلاً إن "أمريكا فعلت الصواب حينها، وعليها أن تفعله مجددًا".
الجانب الأكثر خطورة في هذه التصريحات ليس فقط طبيعتها العدوانية والعنصرية، بل كونها تأتي من مسؤولين منتخبين يمثلون واحداً من أقوى البرلمانات في العالم، ويبدو أن هذه التصريحات لم تلقَ أي رفض فعلي من الإدارة الأمريكية أو من الكونغرس نفسه، ما يشير إلى تواطؤ مباشر أو صمت متعمد، وهو ما يعطي لهذه الدعوات غطاءً سياسياً ضمنياً، ويحوّلها من "آراء متطرفة" إلى مؤشرات على سياسة محتملة أو على الأقل مقبولة ضمنياً داخل النخبة الأمريكية.
تصريحات عنصرية أم مشروع إبادة ممنهج؟
تصريحات فاين وغراهام لا يمكن اعتبارها مجرد تجاوزات لفظية أو ردود أفعال عاطفية على الهجمات التي تستهدف "إسرائيل"، بل إنها جزء من خطاب أيديولوجي يرى في الفلسطينيين "أعداءً وجوديين" يجب التخلص منهم، وليس "خصوماً سياسيين" يمكن التفاوض معهم، فاين وصف الفلسطينيين بالإرهابيين وبأنهم يشكلون تهديداً حضارياً، بل ذهب إلى اعتبار الثقافة الفلسطينية نفسها "خللاً يجب القضاء عليه"، هذه اللغة تذكّر بخطابات الكراهية التي سبقت حملات إبادة جماعية في التاريخ، من رواندا إلى البوسنة.
منظمات حقوقية عدة، بما فيها "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، اعتبرت مثل هذه التصريحات "تحريضاً على الإبادة الجماعية"، وهي جريمة يعاقب عليها القانون الدولي بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
دعم أمريكي لا يتزعزع: من التصريحات إلى الأفعال
هذه التصريحات الوحشية لم تكن سوى امتداد طبيعي للدعم غير المحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة لـ"إسرائيل" منذ بدء عدوانها على غزة في أكتوبر 2023، ففي الوقت الذي تصف فيه الأمم المتحدة الوضع في غزة بـ"الجحيم على الأرض"، وتوثق المنظمات الحقوقية آلاف الجرائم، تواصل واشنطن تقديم الدعم العسكري والسياسي والمالي غير المشروط لكيان الاحتلال الإسرائيلي.
خلال الأشهر الماضية، صادق الكونغرس على مساعدات عسكرية إضافية لـ"إسرائيل" بقيمة تتجاوز 14 مليار دولار.
أرسلت الولايات المتحدة شحنات ضخمة من الذخائر والقنابل، بينها قنابل خارقة للتحصينات استخدمت في تدمير أحياء كاملة في غزة.
وفرت الولايات المتحدة مظلة دبلوماسية لحماية الكيان الغاصب من أي مساءلة دولية، مستخدمة حق النقض (الفيتو) عدة مرات داخل مجلس الأمن لمنع إصدار قرارات تطالب بوقف إطلاق النار.
ازدواجية المعايير: حين تصبح حقوق الإنسان أداة للابتزاز
الرد الأوروبي لم يكن أقل نفاقًا، فبينما تبكي العواصم الأوروبية على المدنيين في أوكرانيا وتفرض عقوبات على روسيا بحجة "انتهاك القانون الدولي"، تواصل هذه الدول دعمها لـ"إسرائيل" سواء بشكل مباشر أو عبر تجاهل جرائمها.
فرنسا، على سبيل المثال، منعت مظاهرات داعمة للفلسطينيين في باريس بدعوى "تهديد الأمن العام"، بينما تسمح بمظاهرات دعم لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ألمانيا، التي تدّعي حماية القانون الدولي بسبب تاريخها النازي، اعتقلت نشطاء رفعوا أعلام فلسطين، وحظرت حملات لمقاطعة "إسرائيل"، بينما تستمر في بيع الأسلحة لها، بريطانيا، من جانبها، اكتفت بتصريحات رمادية عن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، بينما تتغاضى عن صور المجازر اليومية بحق الأطفال والنساء في غزة.
الملف النووي والازدواجية الأمريكية الصارخة
تزامن تصاعد الخطاب العدواني الأمريكي مع إعلان إدارة دونالد ترامب في وقت سابق عن أوامر تنفيذية لبناء مفاعلات نووية جديدة وزيادة إنتاج الطاقة النووية بأربعة أضعاف خلال ربع قرن، بينما تمارس واشنطن أقصى درجات الضغط على دول مثل إيران وكوريا الشمالية بسبب برامجها النووية، وتفرض عقوبات اقتصادية خانقة عليها، فإنها تغض الطرف تماماً عن التهديدات النووية الصريحة الصادرة من حلفائها، وعلى رأسهم "إسرائيل".
وقد سبق لوزير التراث الإسرائيلي المتطرف عميحاي إلياهو أن صرّح في نوفمبر 2023 بأن "استخدام القنبلة النووية في غزة خيار وارد"، دون أن تثير هذه التصريحات أي رد فعل دولي يُذكر.
دعم شامل للإبادة.. بأشكال متعددة
الولايات المتحدة لم تكتفِ بالدعم العسكري والدبلوماسي فقط، بل سعت إلى ترسيخ رواية إعلامية وسياسية تشوه نضال الفلسطينيين وتبرر القتل الجماعي بحقهم:
في الإعلام: تسيطر اللوبيات الصهيونية على معظم وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، وتقدم الرواية الإسرائيلية بوصفها "الدفاع عن النفس"، بينما يُصوَّر الفلسطينيون كـ"إرهابيين".
في الجامعات: جرى فصل أو تهديد مئات الطلاب والأكاديميين الذين عبّروا عن تضامنهم مع غزة، في حملة استئصال غير مسبوقة على الحريات الأكاديمية.
في الاقتصاد: الشركات الأمريكية الكبرى، من بينها شركات سلاح مثل لوكهيد مارتن ورايثيون، تجني أرباحًا ضخمة من دعم كيان الاحتلال الإسرائيلي، بل تضغط على السياسيين لرفض أي مشروع قانون يقيّد بيع الأسلحة لها.
نحو مشروع إبادة جماعية ممنهج
تصريحات راندي فاين ليست إلا القمة الجليدية لخطة أعمق وأخطر: مشروع إسرائيلي أمريكي مشترك لتفريغ غزة من سكانها، تحت ذريعة "القضاء على الإرهاب"، لقد كشفت تقارير منظمات الأمم المتحدة أن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الجوع كسلاح، ومنع إدخال المساعدات الغذائية والطبية، وقصف مراكز الإيواء والمستشفيات، ما أدى إلى مقتل آلاف الأطفال، كثير منهم حديثو الولادة، بسبب نقص الغذاء والأدوية.
هذه السياسات ترقى، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية و"هيومن رايتس ووتش"، إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان، تعتمد على التجويع والترهيب والنزوح القسري، والأخطر من ذلك هو أن الولايات المتحدة لا تعارض هذه السياسات بل تدعمها علنًا.
المجتمع الدولي... صامت أو متواطئ
في ظل هذا المشهد الدموي في غزة، يواصل المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إما الصمت المريب أو التواطؤ العلني، ففي الوقت الذي تصدرت فيه أوكرانيا واجهات الإعلام العالمي وانهالت عليها المساعدات العسكرية والإنسانية فور اجتياح روسيا لأراضيها، نجد أن غزة، رغم الدمار الهائل والمجازر اليومية، تُترَك لتواجه مصيرها وحدها.
ففي الحالة الأوكرانية، سارعت الدول الغربية إلى فرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا، وقدّمت مليارات الدولارات دعماً عسكرياً ومالياً لكييف، إلى جانب تغطية إعلامية متعاطفة وتحركات قانونية عاجلة أمام المحكمة الجنائية الدولية، أما في الحالة الفلسطينية، فلا عقوبات على "إسرائيل"، بل دعم متواصل بالسلاح والمال، وتبريرات لا تنتهي لما تصفه واشنطن وتل أبيب بـ"حق الدفاع عن النفس"، حتى لو أدى ذلك إلى إبادة شعب بأكمله.
التغطية الإعلامية الغربية تسير أيضاً في الاتجاه نفسه، حيث يُصوَّر الفلسطينيون كمصدر تهديد، بينما تُطمس معاناتهم اليومية تحت عناوين مشوشة أو تحريضية، وعلى الصعيد الإنساني، نجد أن إدخال المساعدات إلى غزة يُعاق ويُمنع، رغم التقارير الأممية التي تصف الوضع هناك بـ"الكارثة الإنسانية الأكبر في العصر الحديث".
أمام هذه الازدواجية الفجة، يفقد الخطاب الغربي عن "حقوق الإنسان" و"النظام الدولي القائم على القواعد" كل مصداقية، ويتحوّل إلى أداة سياسية تُستخدم فقط عندما تخدم المصالح الغربية، وتُتجاهل عندما تتعلق بشعوب محرومة من الحماية أو غير محسوبة على "معسكر الأصدقاء"، وهكذا، يبدو أن العالم – في أفضل أحواله – يكتفي بالصمت، وفي أسوأها يشارك في الجريمة.
عندما تُصبح القنبلة النووية "حلاً"
تصريحات فاين ليست معزولة، بل هي تعبير صريح عن عقلية استعمارية لا تزال ترى في حياة الشعوب الأخرى أقل قيمة، وتستخدم القانون الدولي كأداة عندما يخدم مصالحها، وتتجاهله تماماً عندما لا يلائم أجنداتها، أن يدعو نائب في الكونغرس إلى إبادة أكثر من مليوني إنسان بالقنابل النووية دون محاسبة، هو دليل على انحدار أخلاقي خطير في السياسة الأمريكية، وعلى فشل العالم في وقف نزيف غزة.
إن هذا الدعم الأمريكي، السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي، يجعل من الولايات المتحدة شريكًا مباشرًا في جريمة الإبادة الجماعية، وما لم يتحرك المجتمع الدولي لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، فإن العالم لن يكون أمام أزمة أخلاقية فحسب، بل أمام انهيار كامل لمنظومة القانون الدولي.