الوقت - بعد مضي أربعة عقود على تأسيس حزب العمال الكردستاني، الذي انتهج الكفاح المسلح سبيلاً لتحقيق أهدافه في مواجهة الدولة التركية، جاء الإعلان التاريخي يوم الإثنين الثاني والعشرين من مايو، حيث أعلن الحزب رسمياً حلّ نفسه، وقد أكدت وسائل الإعلام الكردية انتهاء الأنشطة المسلحة للحزب ضد تركيا، بالإضافة إلى إنهاء كل فعالياته التنظيمية.
وفي بيان صدر عن المؤتمر الاستثنائي للحزب، أعلن أن معالجة القضايا الكردية يمكن أن تتم عبر السبل السياسية، مشيراً إلى قرار إنهاء الهيكل التنظيمي للحزب والتخلي عن الخيار المسلح، وجاء هذا الإعلان استجابةً لنداء زعيم الحزب عبد الله أوجلان، الذي يقبع في السجون التركية منذ سبعة وعشرين عاماً، والذي طالب في مارس الماضي بحلّ الحزب ونزع أسلحته، وقد أثار هذا التطور ردود فعل واسعة النطاق، مبشّراً باحتمال إنهاء أحد أطول النزاعات المسلحة في العصر الحديث.
في الأشهر الأخيرة، شهدت تركيا حراكاً سياسياً مكثفاً بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي، الذي يمثّل صوت الأكراد، إلى جانب محاولات للتواصل مع عبد الله أوجلان، سعياً للتوصل إلى صيغة تنهي الصراع المسلح، هذه الجهود أثمرت لقاءً تاريخياً جمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بوفد من حزب الشعوب الديمقراطي في المجمع الرئاسي بأنقرة، بمبادرة من دولت بهتشلي، زعيم حزب الحركة القومية وحليف أردوغان، الذي دعا أوجلان إلى إعلان انحلال الحزب والتخلي عن السلاح.
نهاية الكفاح المسلح: بوابة نحو السلام أم بداية لتعقيدات جديدة؟
قد يسهم إعلان حزب العمال الكردستاني عن إنهاء أنشطته المسلحة في تخفيف حدة التوترات في المناطق الجنوبية الشرقية من تركيا، ويفتح آفاقاً لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية، فضلاً عن تعزيز فرص المصالحة الوطنية، كما قد يُمهد هذا القرار لاستئناف محادثات السلام بين أنقرة والممثلين السياسيين للأكراد.
وفي السياق ذاته، فإن تلاشي التهديد العسكري للحزب قد يمنح الأحزاب الكردية، وعلى رأسها حزب الشعوب الديمقراطي، فرصةً أكبر للعب دور فاعل في المشهد السياسي التركي، شريطة ألا تُتهم مجدداً بالتواطؤ مع حزب العمال الكردستاني.
المعوقات التي تحول دون تحقيق السلام بين تركيا والأكراد
رغم أن انحلال حزب العمال الكردستاني بعد أربعة عقود من الكفاح المسلح يُعدّ خطوةً إيجابيةً نحو إنهاء العنف وإطلاق مرحلة جديدة من الحوار السياسي، إلا أن تحقيق سلام دائم يتطلب تجاوز عقبات معقدة على المستويين السياسي والداخلي.
فعلى الصعيد السياسي، تواجه تركيا أزمة ثقة عميقة مع الأكراد، ورغم أن أنقرة قد تنظر إلى هذا القرار باعتباره خطوةً إيجابيةً، إلا أنها ستظل متحفظةً حتى تحصل على ضمانات أمنية شاملة، وكما صرّح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: “علينا أن ننتظر لنرى الرد التاريخي من حزب العمال الكردستاني، لأن التخلي عن السلاح وحده لا يكفي، يجب تفكيك الهيكل غير القانوني للحزب، الذي قد يعود إلى حمل السلاح إذا اقتضت الضرورة”.
أما على المستوى الداخلي للحزب، فتبرز تحديات جوهرية تعرقل مساعي المصالحة مع أنقرة، ومن أبرز هذه التحديات، مصير الأسلحة التي يمتلكها الحزب، وحتى الآن، لم يُصدر أي إعلان رسمي أو ضمان عملي بشأن نزع السلاح بالكامل وتسليم ترسانته إلى جهات دولية أو الحكومة التركية، ما يعزّز من مخاوف أنقرة.
تركيا تطالب بتفكيك جميع فروع الحزب في الدول المجاورة ووقف كل الأنشطة المسلحة، لكن بعض الفروع التابعة للحزب، مثل القوات المتمركزة في جبال قنديل بالعراق، وتنظيم “بيجاك” في إيران، ووحدات حماية الشعب الكردية في سوريا (YPG)، لم تُظهر أي رغبة في التخلي عن السلاح أو إنهاء الكفاح المسلح، بل إن قيادات قوات سوريا الديمقراطية سبق أن أعلنت رفضها تسليم أسلحتها، مؤكدةً أن قرار انحلال حزب العمال الكردستاني لن يؤثر على الأكراد في سوريا.
هذه الفروع، التي تتمتع بهياكل قيادة مستقلة نسبياً، تطالب بضمانات واضحة بشأن مستقبلها السياسي وأمنها الشخصي ومكانتها القومية، وبعضها يرى أن حلّ الحزب دون تحقيق مكاسب سياسية ملموسة للأكراد، قد يُضعف موقفهم، وبالتالي، فإن التباطؤ في تنفيذ نزع السلاح أو المقاومة ضد هذا القرار، يُفاقم حالة انعدام الثقة بين تركيا والقوى الكردية.
غيوم الشك تخيّم على مفاوضات السلام
بينما تسعى تركيا إلى نزع السلاح الكامل وتفكيك جميع فروع الحزب، ينتظر القادة الأكراد خطوات ملموسة من أنقرة لتحقيق السلام الحقيقي، وإذا اقتصرت الحكومة التركية على المطالبة بتسليم السلاح دون تقديم إصلاحات سياسية أو ثقافية، فإن انحلال الحزب لن يؤدي إلى سلام دائم، بل قد يعيد إنتاج الصراع في أشكال جديدة.
التجارب السابقة لمفاوضات السلام، مثل عملية السلام بين عامي 2013 و2015، تركت أثراً سلبياً في نفوس الأكراد، حيث لم تستطع تركيا الوفاء بوعودها بشأن حقوقهم وإصلاحاتها السياسية، كما لم يتمكن حزب العمال الكردستاني من إلزام جميع أعضائه بالالتزام بخط الصلح.
ويضاف إلى ذلك المخاوف من أن تؤدي الإجراءات الأمنية الصارمة التي استهدفت النشطاء الأكراد في الماضي، إلى تزايد القلق بين قيادات الحزب بشأن احتمالات تعرض أعضائه للملاحقة أو المحاكمة بعد نزع السلاح، فلا تزال الضمانات القانونية لحماية قيادات الحزب غامضةً وغير محددة.
كما أن غياب آلية دولية واضحة للإشراف على عملية نزع السلاح، وعدم وجود إطار عملي لنقل مطالب الأكراد إلى الساحة السياسية، يجعل من قرار انحلال الحزب مجرد خطوة رمزية، دون أن يُفضي إلى سلام مستدام.
الطريق إلى السلام: بداية أم سراب؟
في المجمل، إعلان انحلال حزب العمال الكردستاني لا يمثّل نهاية للصراع، بل بداية لمسار سياسي وأمني بالغ التعقيد، فالتباينات الداخلية داخل الحزب، وانعدام الثقة التاريخي، والرؤية المحافظة للحكومة التركية، كلها عوامل قد تجعل السلام المنشود حلماً بعيد المنال، يلوح في الأفق دون أن يتحقق بالكامل.