الوقت - في مقال نشرته المجلة، جاء فيه: منذ السابع من أكتوبر عام 2023، يبدو أن نفوذ إيران حاضر في كل بؤرة من بؤر التوتر التي تعصف بالشرق الأوسط، فقد تفاجأت "إسرائيل"، المنهمكة في التركيز على حزب الله حليف إيران في لبنان، بهجوم بري مدمر انطلق من غزة بقيادة حركة حماس، ما شكّل صدمةً كبرى لها، وعلى الجانب الآخر، فاجأت أنصار الله في اليمن الغرب بقدرتها على تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر بشكل شبه كامل، تحت دعوى تلقيهم شحنات كبيرة من الصواريخ، رغم ما كان يُعتقد عنهم بأنهم حركة غير منظمة وغير متماسكة.
ولي نصر، الباحث البارز في شؤون إيران والشرق الأوسط وصاحب كتاب “الإستراتيجية الكبرى لإيران: تاريخ سياسي”، يسلط الضوء على مسار السياسة الخارجية الإيرانية، التي تشكلت عبر عقود من التجارب والصراعات، حتى أوصلتها إلى موقعها الحالي.
يرى نصر أن الرؤية الإستراتيجية للجمهورية الإسلامية لا تقتصر على نشر أيديولوجيا الإسلام الثوري، بل تتأصل في مفهوم للأمن القومي ينبع من التنافسات الإقليمية، التجارب التاريخية، والحركات المناهضة للاستعمار والإمبريالية في أواخر القرن العشرين.
ويقول نصر: “الإسلام لا يزال يشكّل لغة السياسة الإيرانية”، لكنه يؤكد أن هذه الأسس الدينية تُستخدم كأداة لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية داخل البلاد، وتعريف مصالحها الوطنية خارجياً.
ومع مساعي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإحياء سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجها في ولايته الأولى، وجدت إيران نفسها أمام مفترق طرق مفصلي، ولتفسير رد فعلها المحتمل، يشدّد نصر على ضرورة أن يتخلى الغرب عن رؤيته التقليدية تجاه إيران، وأن يغوص في أعماق تاريخها ليكتشف الجذور الحقيقية لسلوكها ومواقفها.
ويرى نصر أن حرب إيران والعراق خلفت إرثاً استراتيجياً عميقاً، صاغ طريقة تفكير إيران وسلوكها على مدار العقود الثلاثة الماضية وحتى اليوم، يصف هذا الإرث بأنه مزيج من “الخوف من الحصار” و"السعي إلى توسيع النفوذ"، وهو مزيج دفع طهران إلى الاعتماد على القوات الوكيلة والحلفاء الإقليميين، فضلاً عن التكتيكات غير المتكافئة، لمواجهة أعداء أكثر تفوقاً تجهيزاً، كأمريكا.
وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، فتحت فكرة السلام وجذب الاستثمارات الأمريكية أبواب الأمل أمام بعض السياسيين الإيرانيين البراغماتيين، ومن أبرز هؤلاء الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي سعى خلال التسعينيات، بدعم من شخصيات بارزة، لتحقيق “اتفاق كبير” مع الولايات المتحدة.
وعقب رفسنجاني، تولى محمد خاتمي، زمام السلطة، وأظهر رغبةً علنيةً في تحسين العلاقات مع واشنطن، يشير نصر في مقاله إلى أن خاتمي أعد في عام 2003 رسالةً موجهةً إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، يقترح فيها تسويةً شاملةً لجميع الخلافات بين البلدين، غير أن مستشاريه نصحوه بعدم إرسالها، محذرين من أن واشنطن قد تفسر هذه الخطوة على أنها علامة ضعف، ورغم التحذيرات، أرسل خاتمي الرسالة، إلا أن بوش لم يرد عليها، ما دفع خاتمي للاعتراف بأن مستشاريه كانوا محقين في توقعاتهم.
من منظور طهران، لا تُقاس الأمور بالنتائج الآنية، بل بالغايات طويلة الأمد، فالحرب العراقية الإيرانية، رغم تكلفتها الباهظة، علّمت إيران كيفية الالتفاف على العقوبات الغربية عبر الشركات والوسطاء، كما أنها عززت إيمان الفئات الأكثر التزاماً وإيديولوجيةً بقدرة إيران على الصمود واستعادة مكانتها.
وربما كان الأثر الأهم للحرب، هو تحول إيران إلى قوة مكتفية ذاتياً في مجال التكنولوجيا العسكرية، هذه الكفاءة الذاتية مكّنتها من إنتاج أدوات دفاعية متقدمة، مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية التي أطلقتها على "إسرائيل" في أكتوبر الماضي، بالإضافة إلى أجهزة الطرد المركزي التي تقربها خطوةً من امتلاك قدرات نووية.
كما أن هجوم صدام حسين على إيران ساهم في صياغة عقيدة الدفاع الاستباقي، التي تبنتها إيران رسمياً عام 2003. السلوك الذي يعتبر من وجهة نظر إيران جهد دفاعي يهدف إلى تحييد التهديدات قبل أن تصل إلى حدودها.
يشدّد نصر على أنه لا توجد حلول مباشرة أو سهلة للتحديات التي تواجهها المنطقة، ويضيف إنه حتى لو قررت إيران اليوم التخلي عن عقيدة الدفاع الاستباقي، فإن تحقيق ذلك سيكون أمراً بالغ الصعوبة.