الوقت - في الخريف المنصرم، أعلن "مهر غريغوريان"، نائب رئيس الوزراء الأرمني، أثناء لقائه بوفد إيراني في يريفان، عن عمق الروابط بين البلدين قائلاً: "إن المواطنين الأرمن يرون في إيران وطناً لهم، والإيرانيين يعتبرون أرمينيا دارهم، وهذا يجسّد متانة الصلات بين البلدين".
وتجلت هذه العلاقة الوثيقة في مناورات عسكرية متزامنة أجرتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأرمينيا في منطقة نوردوز قبل ما يقرب من أسبوع في ربيع عام 2025، وقد أوضحت المصادر العسكرية الإيرانية أن هذه المناورات تستهدف في المقام الأول تعزيز الأمن على الحدود المشتركة، وترسيخ دعائم السلام المستدام في المنطقة.
وفي هذا السياق، صرح "العميد علي رضا مدني"، قائد الفيلق العملياتي الإيراني 31 عاشوراء في المنطقة الحدودية نوردوز، على هامش المناورات، أنها تأتي في إطار التنسيق الحدودي والتعاون الوثيق بين القوات البرية للحرس الثوري الإيراني والجيش الأرمني، مؤكداً أن غايتها الأسمى تكمن في توطيد أركان الأمن الحدودي المستدام ومجابهة الإرهاب.
محاور العلاقات الإيرانية-الأرمنية: نسيج متكامل الأبعاد
تتخطى العلاقات بين طهران ويريفان حدود التعاون العسكري، لتنسج نسيجاً متكاملاً من المصالح المشتركة والرؤى المتقاربة:
ممر الشمال-الجنوب: عقد الوصل الاستراتيجي
يبرز دور البلدين في استكمال ممر الشمال-الجنوب العالمي كعنصر محوري في توثيق عرى التعاون الاقتصادي بينهما، تبلورت فكرة هذا الممر الحيوي في وثيقة رسمية أُبرمت عام 2000 في سانت بطرسبرغ خلال المؤتمر الثاني للنقل الأوراسي، بمشاركة روسيا وإيران والهند، ثم انضمت إلى ركب هذه المبادرة دول أخرى كأرمينيا وأذربيجان وجورجيا وتركيا.
في بواكير تصوره، كان هذا الممر الاستراتيجي بمثابة بديل واعد لنقل البضائع من شبه القارة الهندية إلى القارة الأوروبية والعكس، يتيح لشركات الشحن تقليص النفقات واختصار الوقت، غير أن آفاق هذا المشروع اتسعت لتشمل الصين وسائر دول شرق آسيا.
ينطلق هذا الشريان الحيوي من مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، بوابة شمال شرق أوروبا، ويمتد عبر شبكة متكاملة من الممرات المائية والطرق البرية والسكك الحديدية إلى بحر قزوين وجنوب القوقاز، ثم يواصل امتداده إلى موانئ إيران الجنوبية، ليعبر الخليج الفارسي وبحر العرب وصولاً إلى شواطئ الهند.
في الوقت الراهن، تجري عمليات نقل البضائع بين الهند وروسيا عبر قناة السويس، بيد أن تشغيل هذا الممر سيقلص زمن الرحلة من 42 يوماً إلى ما بين 16 و21 يوماً، ما يعني اختصار المدة إلى النصف تقريباً، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الشروط التعريفية لنقل البضائع عبر قناة السويس.
ممر زنجيزور: شبح يهدد المصالح الإيرانية
تقع جمهورية نخجوان ذاتية الحكم في جنوب القوقاز وشمال نهر أراس، تحدّها أرمينيا من الشمال والشرق وإيران من الجنوب، وترتبط بتركيا عبر شريط حدودي ضيق من الغرب، لكنها تفتقر إلى اتصال مباشر مع أراضي جمهورية أذربيجان، إذ يمرّ طريق التواصل بينهما عبر الأراضي الإيرانية، وفي مفارقة جغرافية لافتة، تمتد الحدود الإيرانية-الأذربيجانية على مسافة تناهز 690 كيلومتراً، في حين لا تتجاوز الحدود الإيرانية-الأرمنية 44 كيلومتراً.
تتصل تركيا بنخجوان عبر معبر حدودي ضيق، وإنشاء "ممر زنجيزور" سيتيح لها مدّ جسور التواصل البري والسككي بين مدينة قارص وباكو، وهو اتصال بالغ الأهمية لتصدير الثروات النفطية والغازية الأذربيجانية إلى تركيا والدول الأوروبية، غير أن هذا المشروع ينطوي على مخاطر جمة، إذ سيفضي إلى قطع شريان التواصل بين إيران وأرمينيا، ومن ثم تقف طهران بحزم في وجه هذا المخطط.
أطلق عدد من المحللين السياسيين ووسائل الإعلام الإيرانية صيحات تحذير من "اختناق استراتيجي" قد يصيب إيران إذا ما طرأ تحول جذري على الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وانقطعت سبل وصولها إلى الأراضي الأرمنية، وفي هذا الإطار، سبق للمرشد الأعلى للثورة في إيران سماحة السيد خامنئي، أن أعرب عن معارضته القاطعة لإنشاء "ممر زنجيزور" خلال لقائه بالسيد باشينيان في العاصمة الإيرانية.
يتوجّس بعض الخبراء الإيرانيين خيفةً من أن يؤدي إنشاء ممر زنجيزور" إلى المساس بسيادة أرمينيا على منطقتها الحدودية مع إيران، وقطع أواصر التواصل بين البلدين، فرغم أن المسار الرئيس للاتصال البري بين إيران وأوروبا يمر عبر الأراضي التركية، إلا أن انقطاع الصلة البرية مع أرمينيا، سيجعل تركيا تستأثر بموقع المعبر الوحيد لوصول إيران إلى القارة الأوروبية، ومن هنا تأتي مساندة إيران لأرمينيا في مساعيها للحيلولة دون إنشاء ممر زنجيزور، وتحمل المناورات العسكرية المشتركة بين إيران وأرمينيا في طياتها رسالةً جليةً، تؤكد تمسك إيران بخيار ممر الشمال-الجنوب بديلاً عن ممر زنجيزور بشقيه الشرقي والغربي.
الاستقرار الإقليمي: ركيزة راسخة
يمثّل استتباب الأمن والاستقرار في ربوع المنطقة، ركيزةً أساسيةً في سياسات كل من إيران وأرمينيا، فمساندة طهران لمشروع ممر الشمال-الجنوب، تندرج في سياق مساعيها الحثيثة لتوطيد أركان الاستقرار على امتداد الحدود، في الوقت الذي تسعى فيه قوى إقليمية كتركيا إلى زعزعة هذا الاستقرار، من خلال الإصرار على تنفيذ مشروع ممر زنجيزور، بل إن الكيان الصهيوني نفسه قد أسهم في تأجيج نيران الصراع بدعمه لأذربيجان في حرب قره باغ، ومن هذا المنطلق، تمثّل الشراكة مع إيران بالنسبة لأرمينيا تحالفاً استراتيجياً مع دولة لا تسعى إلى إشعال فتيل الحرب، ولا إلى إعادة رسم خارطة المنطقة.
ميزات التحالف مع إيران: خيار استراتيجي لأرمينيا
تتبوأ إيران مكانةً مرموقةً بين حلفاء أرمينيا، بوصفها الحليف الأكثر استقراراً وموثوقيةً، فالقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا يمكن أن تكون حليفاً يعوَّل عليه بالنسبة ليريفان نظراً لعلاقاتها الوثيقة والاستراتيجية مع الكيان الصهيوني، الذي كان أحد أبرز مصادر الإمداد بالأسلحة المستخدمة ضد أرمينيا إبان حرب قره باغ، كما اتخذ الحلفاء التقليديون لأرمينيا، وفي مقدمتهم روسيا، موقفاً يتسم بالحياد إزاء تطورات الأوضاع في قره باغ، وحتى فيما يتعلق بإنشاء ممر زنجيزور، وتبقى إيران وحدها هي التي أعلنت بكل وضوح وصراحة عن خطوطها الحمراء في قره باغ مع التشديد على معارضتها القاطعة لمشروع ممر زنكزور.
وبناءً عليه، يشكّل التحالف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية خياراً استراتيجياً لأرمينيا، تحالفاً يقوم على أسس راسخة من الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة.
