الوقت - مع تنصيب رئيس للجمهورية وتشكيل تركيبة حكومية جديدة في الأراضي اللبنانية، شهد المشهد السياسي تحولاً جوهرياً نحو منعطف استراتيجي مغاير، تتصاعد فيه وتيرة الضغوطات الخارجية، وعلى رأسها الضغوط الأمريكية بشكل لافت.
فما إن انقضت أسابيع معدودة على تولي الحكومة الجديدة مقاليد الأمور، حتى تصاعدت نبرة الهجوم اللفظي من قبل صناع القرار تجاه سلاح المقاومة، في مؤشر جلي يوحي بأن مخطط نزع سلاح حزب الله، قد بدأ تنفيذه فعلياً تحت شعار براق يتمثل في "حق الدولة السيادي المطلق في الدفاع عن حدودها".
وفي هذا المضمار، صرّح الرئيس اللبناني الجديد جوزيف عون، الذي شغل سابقاً منصب قائد الجيش، في حوار مع صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية قبيل زيارته الرسمية الأولى للمملكة، قائلاً: "إن غايتنا المنشودة هي أن تنفرد الدولة بالمسؤولية كاملةً، فهذه المهام تقع حصراً ضمن اختصاصات الدولة، ولا يجوز لأي كيان آخر أن يضطلع بالواجب الوطني المتمثل في صون الأراضي وحماية المواطنين، لا يُسمح مطلقاً لأي طرف بتقمص هذا الدور، وحينما يتعرض لبنان لأي اعتداء، فإن الدولة وحدها هي صاحبة القرار السيادي في تحديد آليات التصدي والدفاع عن الوطن".
تأتي هذه التصريحات ذات الدلالات العميقة والتي تشير ضمناً إلى مسعى نزع سلاح حزب الله، في توقيت بالغ الأهمية يشهد فيه البيان الوزاري للحكومة الجديدة، وللمرة الأولى منذ عقدين من الزمن، غياباً لافتاً لمصطلح "المقاومة" من قاموسه السياسي، ما يطرح تساؤلات جوهرية ومصيرية حول مستقبل الدور العسكري لحزب الله في المرحلة المقبلة من تاريخ لبنان المعاصر.
تكتيك حزب الله الذكي: رمي الكرة في ملعب الحكومة
تتجلى المواقف المستجدة للقيادات الحكومية بشأن بسط السيادة على السلاح وتأمين الحدود في ظرف بالغ الدقة والحساسية، حيث تتنامى في الأوساط اللبنانية مطالبات ملحّة بانسحاب قوات الاحتلال الصهيوني من الأراضي اللبنانية المحتلة في خمسة مواقع جيوستراتيجية، عقب تفعيل اتفاقية وقف إطلاق النار، ويستشعر الرأي العام اللبناني قلقاً عميقاً من احتمالية أن تؤول هذه المناطق إلى المصير المأساوي ذاته الذي آلت إليه الأراضي التي استولت عليها القوات الصهيونية في الماضي (كمزارع شبعا وتلال كفرشوبا…)، ما حدا بهم إلى المطالبة بتحرك حازم وفاعل من صنّاع القرار والمسؤولين في هذا الملف المصيري.
في خضم هذه التحديات الجسام، يقف حزب الله وقوى المقاومة، اللذان نهضا على مدى عقود متوالية - منفردين - بأعباء القصور الهيكلي والفراغ الاستراتيجي للجيش اللبناني في صون السيادة الترابية، وحماية أرواح وممتلكات وأعراض المواطنين اللبنانيين في وجه الاعتداءات والانتهاكات الصهيونية المتكررة، في مواجهة الهجمات الخطابية للمسؤولين الرسميين، بدعوتهم إلى اختبار عملي ميداني ليبرهنوا أمام الرأي العام اللبناني عن جدارتهم وقدراتهم الحقيقية.
وفي الأيام القليلة المنصرمة، وجّه عدد من النواب البرلمانيين والشخصيات المحسوبة على محور المقاومة، رسالةً واضحةً للحكومة مفادها: إذا كنتم واثقين من قدرة الجيش المستقلة - دون مساندة حزب الله - على حماية السيادة الإقليمية اللبنانية، فـ"الساحة مفتوحة أمامكم والميدان يشهد".
في هذا المنحى، أدلى "حسن فضل الله"، العضو البارز في كتلة الوفاء للمقاومة بالبرلمان اللبناني، بتصريح جوهري أثناء مراسم توديع شهداء "عيتا الشعب" قائلاً بنبرة واثقة: "من ربوع عيتا الشعب، معقل الإباء والشموخ، نُعلن رسمياً أننا قد فوّضنا مسؤولية تحرير الأراضي المحتلة وطرد المحتلين منها إلى الحكومة اللبنانية".
وفي سياق متصل، أكد حسين الجشي، أحد أبرز نواب كتلة الوفاء للمقاومة، في خطابه خلال احتفالية تخليد ذكرى الشهداء في بلدة الناقورة، على الإنجاز الاستراتيجي لحزب الله وتفوقه على المخطط العدواني الهادف للسيطرة على المنطقة الأمنية العازلة في الناقورة، والذي شكّل أحد الأهداف الرئيسية المعلنة للعدوان الأخير، مشيراً بوضوح إلى أن: "الدولة اللبنانية تقف اليوم أمام فرصة تاريخية سانحة لتجسيد التزاماتها المعلنة بتحرير كل الأراضي اللبنانية من براثن الاحتلال، وإعادة إعمار ما طالته يد التخريب الصهيونية، وبالأخص في القرى والتجمعات السكانية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة، إلى واقع ملموس يلمسه المواطن اللبناني".
وحثّ الجشي الحكومة على ضرورة التصدي بمنتهى الجدية والصرامة للخروقات والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة يومياً، وممارسة أقصى درجات الضغط الدبلوماسي على الدولتين الراعيتين لاتفاق وقف إطلاق النار، للوفاء بالتزاماتهما في وضع حد نهائي لهذه الانتهاكات المستمرة.
وفي السياق ذات، صرّح علي خريس، النائب في كتلة التنمية والتحرير، بموقف مماثل في جوهره قائلاً: "نحن اليوم أمام معطيات سياسية جديدة، تتمثل في وجود رئيس جديد للجمهورية وتشكيلة حكومية مستحدثة، ويقع على عاتق الدولة اللبنانية واجب وطني مقدس يتمثل في السعي الدؤوب والمتواصل لإرغام المحتل على الانسحاب الكامل من جميع أراضينا المحتلة، وإعادة إعمار ما طالته آلة الدمار العدوانية".
بهذه التصريحات، وضع حزب الله، في مواجهة المواقف التصعيدية للمسؤولين الحكوميين ضد سلاح المقاومة، ثقل المسؤولية الوطنية على كاهل السلطة الرسمية، وأضحى لزاماً على صناع القرار الرسميين الآن أن يقدموا للرأي العام اللبناني تفسيراً مقنعاً لإخفاقهم في تفعيل بنود اتفاقية وقف إطلاق النار، وإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة.
وبهذا التكتيك الدبلوماسي البارع، أوقع حزب الله الأطراف الخارجية المتدخلة في النسيج الداخلي اللبناني والمتورطة في حياكة المؤامرات ضد المقاومة في مأزق استراتيجي، وألقى على عاتقها مسؤولية تمكين الجيش اللبناني وتعزيز قدراته ودعم المؤسسات الأمنية الرسمية، لتطبيق بنود وقف إطلاق النار بصورة شاملة، وإلزام الجيش الصهيوني بالجلاء عن المناطق المحتلة.
وما لا مراء فيه أن المناورة السياسية التي يتبناها حزب الله، تضع المتآمرين على الصعيدين الداخلي والخارجي أمام معضلة بالغة التعقيد والحساسية، حيث إنه بالإضافة إلى تنوير الوعي العام، بات جلياً حتى لأركان الدولة اللبنانية أن القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، لن تبادر أبداً إلى اتخاذ أي خطوة تتعارض مع المصالح غير المشروعة للكيان الصهيوني على حساب لبنان، ويتجلى ذلك بوضوح في تصريحات المسؤولين الأمريكيين الذين حطوا رحالهم في لبنان مؤخراً، إذ أعلنوا صراحةً تفضيلهم لـ "إسرائيل" على لبنان، وفي الوقت الذي لم تتوقف فيه الاعتداءات الإسرائيلية على الجيش اللبناني حتى بعد إبرام الاتفاق، وحتى اللحظة الراهنة، وتكاد تقترن هذه الاعتداءات يومياً بسقوط ضحايا في صفوف الجيش اللبناني، لم تصدر عن الإدارة الأمريكية حتى مجرد إدانة لفظية لهذا الانتهاك السافر لاتفاقية وقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من ذلك، فإن النهج الحالي للحكومة يتمحور حول محاولة طمس جوهر القضية، والافتقار إلى الشفافية في التعامل مع الرأي العام، للتنصل من تحمل المسؤولية الوطنية، فعلى سبيل المثال، يُصر جوزيف عون في حواره مع صحيفة الشرق الأوسط على التهوين من خطورة المسألة، بالتأكيد على انعدام القيمة الاستراتيجية للنقاط الخمس التي لا تزال ترزح تحت نير الاحتلال الصهيوني، قائلاً: "نحن في تواصل مستمر مع الجانبين الفرنسي والأمريكي لممارسة الضغط على الإسرائيليين للانسحاب من النقاط الخمس، لأنها مجردة من أي قيمة عسكرية".
كما أن عون، على الرغم من خلفيته العسكرية كقائد سابق للجيش ودرايته العميقة بالاستراتيجية الأمريكية الراسخة للحفاظ على التفوق العسكري النوعي للكيان الصهيوني على جميع دول الجوار، وحرمان الجيش اللبناني من امتلاك منظومات تسليحية رادعة في مواجهة اعتداءات هذا الكيان، أكد مع ذلك على أهمية العلاقة مع الولايات المتحدة قائلاً: "أنا أتبنى نظرةً تفاؤليةً دائماً، وبكل صراحة ووضوح، العلاقة مع الولايات المتحدة تُعد ضرورةً استراتيجيةً، فتسعون بالمئة من المساعدات المالية والتدريبية والتجهيزية، وصلت إلينا حصراً من القيادة العسكرية الأمريكية".
غير أن هذا المسلك الحكومي لن يصمد طويلاً أمام محك الواقع، ولن ينجح في إقناع الرأي العام اللبناني، وستتحرك الجماهير اللبنانية، حين تلمس بوضوح عجز الحكومة وغياب الإرادة الحقيقية لدى الأطراف الخارجية لإرغام قوات الاحتلال الصهيوني على إنهاء احتلالها لما تبقى من الأراضي اللبنانية، ضد كل المؤامرات الهادفة إلى تجريد المقاومة من سلاحها، باعتبارها الدرع الحصين للسيادة الوطنية والمصالح الاستراتيجية اللبنانية في مواجهة الأطماع والتهديدات الصهيونية المستمرة.