الوقت - في رصد دقيق للعمليات العسكرية الإسرائيلية، تكشف التقارير الاستخباراتية الأمريكية والمصادر العبرية عن تنفيذ ما يناهز 250-300 غارة جوية خلال 48 ساعة، امتد نطاق هذه الغارات من محافظتي درعا والقنيطرة المتاخمتين للأراضي المحتلة، وصولاً إلى أقصى الشمال الشرقي في دير الزور والحسكة، مع استهداف الشريان الاقتصادي المتمثل في ميناء اللاذقية الاستراتيجي.
أما على الصعيد الميداني، فقد شهدت الساحة تطوراً غير مسبوق تمثّل في التوغل البري للقوات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية، بدأت العملية بإقحام الدبابات في المنطقة العازلة بين الجولان المحتل ومحافظة القنيطرة، ثم تطورت - مستغلةً غياب القوة الرادعة - إلى توغل عميق تجاوز حدود المنطقة العازلة، في تصعيد خطير يُنذر بتحولات استراتيجية في المشهد الإقليمي.
أعلن بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ليلة الأحد، عن إسقاط اتفاقية فض الاشتباك المُبرمة مع سوريا عام 1974 - في أعقاب حرب تشرين/أكتوبر التحريرية، وفي خطوةٍ تصعيدية غير مسبوقة، أصدر نتنياهو توجيهاته المباشرة للقوات العسكرية بمواصلة زحفها، ليُتوَّج ذلك باستيلاء قوات الاحتلال على جبل الشيخ (حرمون) - النقطة الاستراتيجية المُشرفة على الأراضي السورية وشمال فلسطين المحتلة - للمرة الأولى منذ خمسة عقود.
وفي مشهدٍ ميداني متسارع الوتيرة، اخترقت القوات العسكرية الإسرائيلية المُعتدية، مدعومةً بتشكيلاتها المُدرعة، محافظة القنيطرة من المحور الغربي، لتتغلغل في النطاق الإداري لمحافظة دمشق، وفي هذا السياق، كشفت قناة الميادين اللبنانية، استناداً إلى مصادرها في الجنوب السوري، عن بسط قوات الاحتلال سيطرتها على سلسلة من المراكز السكانية في ريف دمشق، تشمل بلدات وقرى "عرنة" و"بقعسم" و"الريمة" و"حينة" و"قلعة جندل" و"الحسينية" و"جيتا الخشب" في ريف دمشق.
وفي تطورٍ بالغ الخطورة، لم تعد المسافة الفاصلة بين طلائع القوات الإسرائيلية والعاصمة دمشق تتجاوز 40 كيلومتراً، مع تداول بعض المصادر الميدانية معلومات تفيد باقتراب القوات المُعتدية إلى مسافة 20 كيلومتراً من العاصمة السورية، في تهديدٍ مباشر للأمن القومي السوري.
ماذا تبتغي تل أبيب من اقترابها نحو دمشق؟
يطرح السؤال المحوري التالي نفسه: ما الغاية الاستراتيجية للكيان الإسرائيلي من هجماته المتواصلة على سوريا، والتي تستهدف بشكل ممنهج بنيتها الدفاعية والعسكرية دون هوادة، بالتزامن مع توغلها البري نحو دمشق؟ وما المكاسب التي تسعى تل أبيب لتحقيقها من خلال اقترابها من العاصمة السورية؟
من الجلي أن الكيان الإسرائيلي يتبنى سياسات توسعية في المنطقة، وخاصةً في سوريا، وهو ما يؤكده تاريخ نشأته على الأراضي العربية والإسلامية، ويتجلى هذا التوجه بوضوح في التحالف بين نتنياهو والتيار اليميني المتطرف في تشكيل حكومته، وتصريحات وزرائه المتكررة، ولا سيما سموتريتش وزير المالية وبن غفير وزير الأمن الداخلي، اللذين يجاهران علناً بمشروع "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات.
هذه المؤشرات تكشف أن أطماع الكيان المحتل لا تقتصر على غزة والضفة الغربية فحسب، بل تمتد - مع احتمال عودة ترامب للسلطة - إلى توسعات إقليمية جديدة.
تحتل سوريا موقعاً استراتيجياً في منظومة محور المقاومة، إذ تُعدّ حلقة الوصل المحورية فيه، وقد وضع الكيان الإسرائيلي منذ فترة طويلة خططاً تستهدف إبعاد سوريا عن محور المقاومة، وتحويلها إلى دولة صديقة في حال توفرت الظروف المواتية، أو على الأقل تحويلها إلى نموذج مشابه للأردن ومصر اللتين اعترفتا بالكيان الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة، وأقامتا معه علاقات سياسية واقتصادية وتجارية.
ويستغل الكيان الصهيوني الظروف الراهنة في سوريا، في ظل سقوط نظام بشار الأسد وما قد يعقبه من فوضى وعدم استقرار، لتنفيذ مخططاته التوسعية وإعادة تشكيل المشهد الإقليمي وفق مصالحه الاستراتيجية.
يُنفّذ الكيان الصهيوني سلسلةً غير مسبوقة من الضربات الممنهجة، تستهدف المنظومة الدفاعية والعسكرية السورية بكل مكوناتها - من المنشآت الجوية والمجمعات البحثية ومستودعات العتاد والذخيرة، إلى أسراب المروحيات والطائرات المقاتلة، وصولاً إلى القطع البحرية المرابطة في موانئ اللاذقية وطرطوس.
ويأتي هذا في إطار استراتيجية محكمة تهدف في المقام الأول إلى تحويل سوريا إلى نسخة ثانية من لبنان، تفتقر إلى منظومة دفاع جوي فعّالة، ما يتيح للكيان الصهيوني السيطرة المطلقة على المجال الجوي السوري متى شاء وكيفما أراد، دون عوائق أو حاجة للمناورة، ويُشكل هذا حجر الزاوية في استراتيجية الكيان الصهيوني، إذ يُمهد الطريق لتحقيق أهدافه الأخرى في سوريا المجرّدة من الأسلحة الثقيلة والاستراتيجية.
وفي سياق تاريخي، استولى الكيان الصهيوني عقب نكسة 1967 على مساحات شاسعة من مرتفعات الجولان السورية - ذات الأهمية الجيوستراتيجية القصوى - إلى جانب أراضٍ من الأردن وشبه جزيرة سيناء المصرية، وفي تحدٍ صارخ لقرارات الشرعية الدولية، أقدمت إدارة ترامب الأولى على خطوة غير مسبوقة بالاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني على الجولان المحتل، بالتزامن مع اعترافها بالقدس المحتلة عاصمةً له، وقد أثار هذا القرار آنذاك إدانةً أمميةً، كما أدانت المنظمة الدولية مؤخراً اقتحام قوات الاحتلال للمنطقة العازلة، معتبرةً إياه خرقاً فاضحاً لاتفاقية فض الاشتباك لعام 1974.
أهداف تل أبيب في سوريا: المنظور القريب وبعيد المدى
يتبنى الكيان الصهيوني مقاربةً ذات شقين في تحركاته نحو دمشق، تتمحور حول هدفين استراتيجيين متمايزين في أُفقهما الزمني - أحدهما آني والآخر مستقبلي - مع احتفاظه بهامش مناورة يتيح له تكييف منظومته الاستراتيجية وقواعد الاشتباك وفقاً لديناميكيات المشهد السوري المتغير.
يتمثل المحور الأول في محاولة إجهاض تحركات القوى المعارضة المسلحة نحو الضفة الشرقية للفرات، وعلى وجه الخصوص تلك الفصائل المنضوية تحت المظلة التركية والمستفيدة من الدعم اللوجستي والعسكري لأنقرة، والتي تسعى لبسط نفوذها ليس فقط على غرب الفرات، بل انتزاع شرقه من قبضة الميليشيات الكردية المدعومة من واشنطن.
وقد أثار التقدم الميداني المتسارع للقوات الموالية لأنقرة، المتمثلة في ما يُعرف بـ"الجيش الوطني السوري" (المنبثق عن تشكيلات "الجيش السوري الحر" سابقاً)، ضمن عملياتهم العسكرية الموسومة بـ"فجر الحرية"، حالةً من القلق الاستراتيجي العميق في أروقة صنع القرار الصهيوني والأمريكي.
ويأتي هذا التوجس في ضوء الإنجازات الميدانية النوعية التي حققتها هذه القوات خلال الأيام الاثني عشر المنصرمة في محور شمال حلب ومناطق النفوذ الكردي الموالي لواشنطن، وصولاً إلى إحكام السيطرة الكاملة على مدينة منبج الاستراتيجية، بالتوازي مع تعزيز نفوذها في المحافظات الساحلية الحيوية - طرطوس واللاذقية.
ويُعزى هذا القلق المتصاعد، إلى كون هذه التطورات الميدانية تعكس عزماً راسخاً لدى المعارضة على استعادة السيادة الكاملة على التراب السوري، ما يضع التسارع في وتيرة التقدم نحو دمشق والاستحواذ على مزيد من الأراضي السورية في سياق هذه الاستراتيجية المتكاملة.
تتمحور الاستراتيجية المشتركة للكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية، عبر التوغل العسكري المتصاعد، حول كبح جماح القوى المعارضة السورية المسلحة، ومنع عبورها نهر الفرات واستهداف مناطق نفوذ قوات سوريا الديمقراطية، وتجدر الإشارة إلى أن السيطرة على هذا النطاق الجغرافي الحيوي، أو على الأقل تقليص نفوذ القوى المسيطرة عليه، شكّل هدفاً استراتيجياً مشتركاً بين حكومة دمشق وأنقرة.
وقد بذلت القيادة السورية مساعٍ حثيثة، تضمنت تقديم دعم عسكري للعشائر العربية، بهدف تحرير هذه المناطق الغنية بالثروات النفطية من قبضة الاحتلال الأمريكي والميليشيات الكردية الموالية له، غير أن هذه المحاولات لم تُكلل بالنجاح، ورغم التقاطع في المصالح بين دمشق وأنقرة، إلا أن الطرفين أخفقا في استثمار هذا التوافق بشكل فعّال.
وفي هذا السياق، يتجلى الرفض الأمريكي-الصهيوني القاطع لأي تحول في موازين القوى في شمال شرق سوريا لمصلحة المعارضة والسلطة الجديدة، وخاصةً في ظل تنامي حركة العودة الطوعية للسوريين إلى وطنهم - وغالبيتهم من أبناء شرق الفرات والمناطق الخاضعة للاحتلال.
ومن المرتقب أن تتمحور المطالب الشعبية للسلطة الجديدة حول استعادة الوحدة الترابية السورية، وتأمين عودة المهجرين إلى ديارهم وأراضيهم المغتصبة، وتحرير الأراضي من الميليشيات المرتهنة للإرادة الأمريكية، والتي لا يراها المكون العربي السوري سوى أدوات مرتزقة ومشاريع انفصالية.
أما الهدف الاستراتيجي بعيد المدى للكيان الصهيوني، فيتمثل في انتزاع تنازلات جوهرية من السلطة السورية المرتقبة، فالكيان المحتل، المسيطر على الجزء الأعظم من هضبة الجولان السورية، يرفض رفضاً قاطعاً التخلي عن أي شبر من الأراضي المحتلة، وعليه، يسعى من خلال التوسع في احتلال مناطق استراتيجية في العمق السوري، إلى إرغام القيادة السورية الجديدة على الانخراط في مسار التطبيع والاعتراف بشرعيته المزعومة بعد عقود من المواجهة والصراع، متخذاً من المناطق المحتلة حديثاً - والتي تتسع رقعتها بوتيرة متسارعة - ورقة ضغط استراتيجية.
وفي قراءة استشرافية، يسعى الكيان الصهيوني إلى استنساخ النموذج المصري في سوريا وفرض اتفاقية على غرار "كامب ديفيد" على السلطة المقبلة في هذا القطر العربي، مستغلاً احتمالية عودة ترامب للسلطة. وفي حال تعذر تحقيق هذا السيناريو، فإن البديل يتمثل في تحويل سوريا إلى نموذج لبناني ثانٍ، وقد ساهمت المواقف المبدئية للمعارضة تجاه الكيان الصهيوني والقدس والمسجد الأقصى، في تعميق الهواجس الاستراتيجية لدى صناع القرار في تل أبيب.