الوقت - في ظل الأوضاع الإنسانية القاسية التي يعيشها قطاع غزة، يتعرض قطاع الصيد البحري، الذي يعد أحد المصادر الحيوية للرزق، لضغوطات غير مسبوقة، فبعد أكثر من عام من الحرب الإسرائيلية المستمرة، يُجسد واقع صيادي غزة مأساة إنسانية، حيث تلاشت أحلامهم في صيد السمك وتوفير لقمة العيش لعائلاتهم، لتتحول إلى كوابيس بفعل صواريخ الاحتلال.
العديد من القوارب التي كانت تبحر في عرض البحر وتحمل آمال الصيادين، دُمّرت بشكل ممنهج، ما أدى إلى فقدان الآلاف من فرص العمل ووسائل العيش، بينما تظل المراكب الناجية عاجزة عن مواجهة المخاطر المتزايدة، وتتجلى آثار الدمار في مشهد مؤلم يختزل معاناة سكان هذه المنطقة.
وقد رصدت إحصائيةٌ نشرتها شبكة المنظمات الأهلية، تضرر وتدمير 87% من مراكب الصيد، بما في ذلك 96 قاربًا مزوّدًا بمحركات، و900 قارب من دون محرك، وذكرت أن الحرب خلّفت خسائر غير مباشرة تُقدّر بحوالي 7 ملايين دولار شهريًا، إضافةً لحرمان السكان من الثروة السمكية.
أبو خالد، وهو اسم مستعار اختاره صيادٌ يعمل على متن قارب بدائي صغير يتحرك بواسطة مجذاف، ويرسو على ساحل وسط قطاع غزة، يقول إنه، بين الحين والآخر، يضطر لنزول البحر طلباً للرزق، وتوفير قوت أسرته.
وقد روى عدة حوادث قضى خلالها صيادون خلال الحرب الحالية، وهم على ظهور قواربهم في رحلات صيد لم تكن بعيدة عن الشاطئ سوى عشرات الأمتار، لافتاً إلى أنه في كل مرة ينزل فيها البحر يستذكر تلك الحوادث، غير أن اضطراره للعمل يجبره على المخاطرة من جديد.
ولم يعد هذا الصياد يعمل بشكل يومي كغيره من الصيادين، حيث تحدّد طبيعة البحر والتصعيد موعد نزوله، وقد اضطر، كغيره، للجوء إلى الصيد بقارب المجذاف، بدلاً من القارب المزوّد بمحرك ديزل، خشية من الاستهدافات الإسرائيلية، كما اضطر للجوء لطريقة قديمة في الصيد، تعتمد على رمي شباك الصيد حول منطقة محددة، لا يعرف إن كان يوجد فيها أسماك أم لا، وتكون قريبة جداً من الشاطئ، بدلاً من الطريقة السابقة التي كانت تصل فيها المراكب لعدة كيلومترات في البحر، وتحيط بشباكها مناطق الأسماك، وتعود بصيد وفير في مواسم الصيد.
ولقطاع غزة شريط ساحلي يمتد على طول 41 كم، يعتمد سكانه على البحر كمصدر رئيسي للرزق، حيث مهنة الصيد متوارثة عبر الأجيال، ويعمل في هذا القطاع ما يزيد على 4500 صياد، بالإضافة إلى أكثر من 1500 شخص ذي علاقة بالمهنة، بينهم الباعة.
وفي مكان عمل الصيادين على أحد سواحل وسط القطاع، كان هناك الصياد أحمد مقداد (في منتصف العشرينيات)، وهو نازح من مدينة غزة، يساعد زميلاً له في عمله، حيث تحدث هو الآخر بمرارة عن واقع الحياة الأليم، ويؤكد هذا الصياد، الذي ينتمي لعائلة معروفة بتوارث مهنة الصيد، أن قارب أسرته دمر في أوائل أيام الحرب، وأنه اضطر للنزوح وأسرته دون أن يحمل شيئاً من معدّات الصيد، فوقتها كان البحر مغلقاً، ومحرماً.
ويوضح أن هناك عدداً كبيراً من الصيادين لجؤوا إلى مهن أخرى، لعدم توافر الظروف الملائمة للعمل في البحر، حيث الحرب والخوف والقصف وتدمير المراكب، وتحدث عن صيادين يعملون حالياً في مهنة بيع الخضار أو المواد الغذائية، ومنهم من يعمل سائقاً على عربة يجرّها حمار لنقل السكان أو البضائع، وكما باقي الصيادين استذكر الصياد الشاب، زملاء له قضوا في الحرب، إما في غارات طالت منازلهم، أو خلال رحلات العمل الاضطرارية التي كانت خلال الحرب، بحثاً عن مصدر رزق.
والجدير ذكره أنه علاوة على هذا التدمير الكبير، الذي طال قطاع الصيد، قتلت قوات الاحتلال، منذ بدء الحرب، 150 صياداً، حسب تقرير القطاع الزراعي في شبكة المنظمات الأهلية، وهو عدد ليس بالقليل، مقارنة بأعداد الصيادين في القطاع، وكان من بين العدد الإجمالي 30 صياداً قضوا خلال محاولتهم ممارسة مهنة الصيد لتأمين قوت أسرهم.
ويؤكد القطاع الزراعي أن التدمير الممنهج لقطاع الصيد حرم سكان القطاع من الحصول على حاجتهم من الأسماك، وخاصة في ظل تقليص الاحتلال دخول شاحنات المساعدات الإنسانية، وعدم السماح بدخول أي نوع من أنواع اللحوم الطازجة للسوق المحلي.
وفي ظل حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي تتشابك الحياة اليومية مع أزمات لا تنتهي، إذ تقف إرادة المواطنين أمام التحديات بحلول مبتكرة، ما دفعهم إلى البحث عن وسائل بديلة لمواجهة متطلبات الحياة اليومية، والتغلب على الظروف القاسية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع.
فعلى سبيل المثال، اضطر سكان غزة للعودة إلى الوراء لعقود، واستخدموا أفران الطين في صناعة الخبز لتيسير أمورهم الحياتية وتعزيز مقومات صمودهم بعد انقطاع الوقود والكهرباء نتيجة منع "إسرائيل" وصولهما إلى القطاع منذ بداية العدوان.
وتتشابك الأزمات الاقتصادية والإنسانية لتترك بصمتها على كل تفاصيل الحياة، ووسط أزمات الوقود والدقيق التي تعصف بالقطاع تبرز قصة الروائي الفلسطيني محمود عبد المجيد عساف الذي عرض عليه شخص يمتلك فرنا شراء ما تبقى من مكتبته لاستخدامها وقودا للخَبز على النار.
وكتب الروائي محمود عساف عبر حسابه على منصة فيسبوك أنه تلقى اتصالا هاتفيا من شخص لديه فرن يعرض عليه شراء ما تبقى من مكتبته لأغراض الخَبز على النار، قائلا "يبدو أنني سأضطر للموافقة لضيق الحال، ليتني مت قبل هذا".
وأشار عساف إلى أن مكتبته -التي يبلغ عمرها 35 عاما- تحتوي على 30 ألف عنوان، وكان آخر تحديث لها في يناير/كانون الثاني 2023 بإضافة 250 كتابا جديدا من معرض القاهرة الدولي للكتاب وتعليقا على منشور والده، كتب محمد عساف عن المكتبة قائلا "هذه المكتبة التي جمّعها والدي ساهمت في بناء شخصياتنا وتفكيرنا، ولنا معها ذكريات كالأهل".
وتعكس هذه القصص تداخلها مع صور انتشار أفران الطين والطوابير المزدحمة أمام المخابز، في انعكاس واضح لواقع مرير يضرب قطاع غزة بكل شيء، بدءا من الفكر والإبداع وصولا إلى أبسط ضروريات الحياة.