الوقت - انطلق الأردنيون منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة للمشاركة في مئات المظاهرات والفعاليات الشعبية في العاصمة عمان ومعظم محافظات المملكة، تضامناً مع الفلسطينيين، ورفضاً للعدوان الذي يشنه العدو الإسرائيلي على القطاع، وشهد محيط السفارة الإسرائيلية، وبصورة يومية، وقفات ومسيرات جماهيرية حاشدة، منادية بقطع العلاقات مع كيان الاحتلال وطرد السفير الإسرائيلي من عمان، واستدعاء السفير الأردني من تل أبيب.
وأعلنت الحكومة الأردنية، استدعاء السفير الأردني في "إسرائيل" إلى الأردن فورا، وطلبت من تل أبيب عدم إعادة السفير الإسرائيلي الذي غادر المملكة سابقا، كما جاء في قرار نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين أيمن الصفدي، أن القرار الأردني يأتي "تعبيرا عن موقف المملكة، الرافض والمدين للحرب الإسرائيلية المستعرة على غزة، والتي تقتل الأبرياء، وتسبب كارثة إنسانية غير مسبوقة، وتحمل احتمالات خطرة لتوسعها، ما سيهدد أمن المنطقة كلها، والأمن والسلم الدوليين"، فالمزاج الأردني الشعبي والرسمي منتفض ضد الكيان الإسرائيلي.
وقد وقفت بشكل عام الدول المحيطة بفلسطين موقفاً رافضا للحرب على قطاع غزة، والعدوان الإجرامي الوحشي الذي يشنه كيان الاحتلال على الفلسطينيين في القطاع، لكن الأردن كان له موقف أكثر خصوصية وذلك لصلته المباشرة بتداعيات تلك الحرب.
تجاوزات لا ينفع معها غض الطرف
مضى كيان الاحتلال في حربه على قطاع غزة إلى أبعد مستوى من التصعيد والوحشية، فاستهدف كل شيء، ودمر البنية التحتية التي قد تضمن قيام أي مجتمع بشري هناك، فبدا واضحاً الهدف المباشر من هذه الحرب وهو تهجير الفلسطينيين من أرضهم، من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وهو الخط الأحمر الرئيس للقيادة الأردنية، فمنذ بدء العدوان تتوجه التصريحات الرسمية الأردنية باتجاه الرفض المطلق لأي خطوة تهدف لتهجير الفلسطينيين، أو أن يؤدي تصاعد وتوسع الصراع إلى تدفق اللاجئين من الضفة الغربية إلى داخل الحدود الأردنية.
فقد حذر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في بيان مشترك من كارثة إقليمية في حال اتساع نطاق هذه الحرب، وأكدا موقف الأردن ومصر الموحد الرافض لـسياسة العقاب الجماعي من حصار أو تجويع أو تهجير للأشقاء في غزة، مشددين على أن أي محاولة للتهجير القسري إلى الأردن أو مصر مرفوضة.
وأكد العاهل الأردني على وجوب التعامل مع الوضع الإنساني داخل حدود قطاع غزة والضفة الغربية مشيرا إلى أنه لا يمكن استقبال اللاجئين في الأردن، ولا في مصر جراء الحرب على غزة، وهذا خط أحمر.
فالأردن ينادي بحل الدولتين، لذا انطلق القلق الأردني من الخشية من محاولات كيان الاحتلال إفراغ الضفة وغزة من ساكنيها، وترحيلهم إلى الأردن ومصر، ما يعني تصفية القضية الفلسطينية، إذ أعلن الأردن رفضه المطلق أن يكون "الوطن البديل" للفلسطينيين، ضمن ما عرف بـ"صفقة القرن"، التي روج لها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
ويشكل الأردنيون من أصل فلسطيني نحو نصف عدد سكان المملكة، التي كانت الضفة الغربية تخضع لإدارتها قبل حرب يونيو 1967، إذ يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وفق الأمم المتحدة نحو 2.2 مليون لاجئ، فالأردن عانى سابقاً من تبعات الهجرة واللجوء، إذ استقبل فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وسوريين خلال العقود الماضية، وكلهم لم يعودوا، الأمر الذي شكل عبئاً كبيراً عليه، على مختلف الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية أيضا، إذ إن قيام دولة فلسطينية يمكن أن يشكل ركيزة أساسية للأمن الوطني في الأردن.
الانقلاب الأردني
اجتمعت الأسباب التي تدفع بالأردن إلى اتخاذ خطوات أكثر جدية تجاه كيان الاحتلال، وحان وقت المواقف ذات البعد الإقليمي والدولي، إذ تولت شخصيات أردنية بارزة ومختصة في هذا السياق موضوع الإعداد والتحضير للأطر والصياغات القانونية اللازمة لمحاسبة كيان الاحتلال على جرائمه ومذابحه في قطاع غزة تحديدا، والتي يمكن أن توضع بين يدي مركز القرار الأردني في أي لحظة يقرر فيها التحرك سياسيا عبر القوانين الدولية، فذلك الجهد هو التفاف أردني علني على المستوى الملكي وعلى المستوى الحكومي في إطار التصدي للعدوان الاسرائيلي بأفضل الطرق الدبلوماسية الممكنة.
وأعلن وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الاستدارة بكشفه عن مشروع أردني يمكن أن ينتهي بالتقدم بطلبات وشكاوى محددة لمحكمة الجنايات الدولية عندما صرح أن "إسرائيل" ينبغي ألّا تكون بعد الآن فوق القانون الدولي وأن مجرمي الحرب ينبغي معاقبتهم ومحاسبتهم، وهذا يعني أن الأردن بات يجهز ملفات في هذا الشأن وهو ما لم يكن متضمنا سابقا في الخطاب الدبلوماسي الأردني ضمن إطار العلاقة مع كيان الاحتلال.
كما كلف مجلس النواب لجنته القانونية بجمع الوثائق والأدلة لتقديم شكوى باسم الشعب الأردني لدى محكمة الجنايات الكبرى، ضمن المراجعات التي قررها لاتفاقية السلام مع كيان الاحتلال، وتم التصويت على المشروع، وأصبح طي الاستعداد والجاهزية بحيث يستطيع مركز القرار السياسي استخدامه إذا ما ارتكب الكيان حماقة لها علاقة بالتهجير القسري تحديدا في قطاع غزة أو الضفة الغربية، ليتلاقى هذا الجهد مع تصريحات الوزير الصفدي.
وأكد نقيب المحامين الأردنيين المحامي يحيى أبو عبود الذي تم تفويضه من اتحاد المحامين العرب للتحدث باسمهم أن نقابته بدأت فعليا بتوثيق جرائم الاحتلال في قطاع غزة خلال معركة "طوفان الأقصى"، وتتواصل مع نقابة المحامين الفلسطينيين، وتحديدا محامي قطاع غزة، لمساعدتهم على توثيق "ما يقوم به الاحتلال من قتل للمدنيين، وخاصة الأطفال والنساء.
وأشار أبو عبود إلى خطوات إجرائية ستكون خلال الأسابيع القادمة، من خلال العمل على رفع دعاوى قضائية في مختلف المحاكم الدولية، وذلك بالتعاون بين اتحاد المحامين العرب والنقابات العربية والمؤسسات الدولية والأفراد، لافتا إلى أن نقابة المحامين ستطالب بإحالة المسؤولين الإسرائيليين عن الانتهاكات الإنسانية بحق المدنيين، وجرائم الحرب ضد الفلسطينيين، إلى القضاء الدولي لكي تتم إدانتهم على الأفعال المنسوبة إليهم.
وبيّن أبو عبود أن أفعال وممارسات الاحتلال في غزة تشكل كل أركان جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية من خلال التدمير الممنهج للمستشفيات، والمباني السكنية، والمساجد والكنائس، وتعمد قتل المدنيين، واستخدام الاحتلال للفوسفور الأبيض المحرم دوليا، داعيا المجتمع الدولي للتحرك الفوري لوقف المجازر التي يرتكبها الاحتلال، وتهديد الآمنين واللاجئين في المدارس والمستشفيات ودور العبادة.
كما تجري وزارة الخارجية الأردنية اتصالات مكثفة في هذا الصدد لا تقف عند حدود الدول العربية الشقيقة ولا الدول الإسلامية الصديقة بل تطال ملحقات قانونية وحقوقية تتبع وزارات الخارجية الغربية والأوروبية تحديدا، بسبب هجمة الجيش الإسرائيلي على مقرات ولجان ونشاطات وخلايا المؤسسات والمنظمات الدولية في قطاع غزة أثناء العدوان، إذ يتم جمع وثائق وإجراء مراسلات وتدقيق بيانات تعد ضرب مقرات منظمات دولية مثل الأونروا وضرب المنظومة الصحية في قطاع غزة الشمالي على الأقل هي مؤشرات حقيقية على جريمة الإبادة الجماعية ويمكن الاستناد إليها في تقديم أدلة وبراهين لدى محكمة الجنايات الدولية.
إذاً تعتمد الأردن في مشروعها هذا على اتساع الاهتمام بالشأن الفلسطيني والحرب على غزة، إذ أصبح العدوان رأياً عاماً وعالمياً، وهو كما يقول أبو عبود "الأمر الذي يدعم موقفنا في المحاكم الدولية، لأن الإعلام العالمي أداة حيادية، ولا تتبع لجهات لها علاقة بمعادلة الحرب هنا أو هناك".
لطالما ساور أبناء هذه المنطقة، ولا سيما الواقعين تحت الاحتلال الشك بعمل المؤسسات الدولية، وتحقيق الفائدة المرجوة عندما يتعلق الأمر بكيان الاحتلال أو بالدول الاستعمارية، لكن، يبقى تحرك بهذا الحجم هو أقل ما يمكن فعله لتسجيل موقف حقيقي، فلربما ساهم باستصدار موقف دولي يمتثل له كيان الاحتلال الذي لم يفعل ذلك سابقاً.