الوقت- على الرغم من مرور أيام قليلة على اجتماع رئيسي تركيا وروسيا، لا يزال هناك الكثير من الأخبار والتحليلات حول هذه الاجتماع الهام. وربما يكون السبب الرئيسي للجدل الدائر حول اجتماع "أردوغان وبوتين" هو أنه لم يتم إصدار بيان كامل رسميًا من قبل السلك الدبلوماسي للدولة المضيفة، (روسيا)، وكذلك من وزارة الخارجية التركية والرئاسة التركية. ونتيجة لذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانوا قادرين على التوصل إلى اتفاق، على الرغم من كل الخلافات القائمة بين "أردوغان وبوتين". وقبل اجتماع "أردوغان وبوتين"، توقعت العديد من وسائل الإعلام الإقليمية أن يكون الخلاف حول الدور النهائي للمعارضة المسلحة المتطرفة في إدلب هو المحور الرئيسي للتوترات الروسية التركية.
وحسب وسائل الإعلام في أنقرة، فإن هذا هو بالضبط سبب إعلان "بوتين" أنه لن يقابل إلا "أردوغان" وحده ولا يحتاج إلى وجود وزراء دفاع ورؤساء أجهزة المخابرات الأمنية ووزراء الخارجية، ويفضل مواجهة أردوغان فقط مع مترجم. وبحسب "بوتين"، فإن اجتماع الوفود وحضور وزارة الدفاع ووزارة الخارجية وأجهزة المخابرات أمر منطقي عندما يحل البلدان بعضًا من أهم خلافاتهما الأساسية ويبحثان عن اتفاق في مجالات أخرى. . لكن اتضح الآن، أن قضية إدلب ليست صخرة كبيرة. وعلى عكس العديد من التكهنات الإعلامية، فإن المساومة على مصير المعارضة السورية المتطرفة المتمركزة في مدينة إدلب لم تكن نقطة الخلاف الرئيسية بين "أردوغان وبوتين"، حيث ناقش الجانبان أيضا العديد من المواضيع الاخرى.
شبه جزيرة القرم وبوتين
أشار المتحدث باسم الكرملين "دميتري بيسكوف" إلى أن "بوتين" طلب مرارًا من "أردوغان" الذهاب إلى شبه جزيرة القرم بدعوة من روسيا، حيث يبحث عن كثب لمعرفة ما إذا كانت مزاعم أوكرانيا بشأن شبه جزيرة القرم صحيحة أم لا. ولقد وضعت خطوة "بوتين" الذكية "أردوغان" في موقف صعب، لأنه إذا ذهب إلى شبه جزيرة القرم بدعوة من "بوتين"، فهذا يعني عمليًا أنه اعترف بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا وانفصالها عن أوكرانيا. وفي السنوات الثلاث الماضية، وضع "أردوغان" تطوير العلاقات مع أوكرانيا على جدول أعماله، واجتمع مع "زيلينسكي" عدة مرات، ومن خلال بيع طائرات بدون طيار لأوكرانيا، أظهر أنه قادر أيضًا على إثارة مخاوف روسيا في البحر الأسود. كما التقى "أردوغان" عدة مرات مع زعيم تتار القرم "مصطفى عبد الجميل كريم أوغلو" وأصر دائمًا على أنه لا يعترف بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا. وفي الوقت نفسه، كان لدى "بوتين" حساسية خاصة تجاه هذه القضية وأصبح حساسًا تجاه العلاقات التركية الأوكرانية.
قبرص مقابل جزيرة القرم
أثارت تصريحات أحد مستشاري السياسة الخارجية لـ"فلاديمير بوتين" بشأن هذه القضية حساسية في وسائل الإعلام اليونانية. وقال البروفيسور "ألكسندر دوجين"، مستشار "بوتين" وأحد منظري السياسة الخارجية لروسيا، إن "أخطر نزاع بين الزعيمين كان حول شبه جزيرة القرم. ومن غير المرجح أن تقدم روسيا أي تنازلات بشأن شبه جزيرة القرم، لأنها تعتبر شبه جزيرة القرم من ضمن أراضيها. علاقاتنا مع أوكرانيا تشبه مشاكل تركيا مع اليونان. نحن لا نتدخل في قضية تركيا واليونان، وعلاقة تركيا بأوكرانيا متشابهة. وإذا تخلت تركيا عن إدعاءاتها حول شبه جزيرة القرم، فيمكن لموسكو أيضًا الاعتراف بجمهورية شمال قبرص التركية (KKTC) كدولة شرعية".
بعض الأمثلة البارزة لتغّير الموقف التركي
تُظهر نظرة عامة على قرارات وإجراءات الجهاز الدبلوماسي التركي في السنوات الأخيرة أنه في مجال السياسة الخارجية، أن فريق "أردوغان" لديه سياسة ونهج براغماتيين تمامًا، وأن اتخاذ قرارات جديدة في موقف ما من مسؤولي أنقرة ليس مفاجأ لأحد. وكما رأينا عدة مرات، تفاوضت تركيا مع قادة الإخوان المسلمين والجماعات الفلسطينية المسلحة لتبرير قربها من إسرائيل من أجل الحفاظ على علاقاتها مع الكيان الصهيوني. وفي العامين الماضيين أيضًا، أدرك فريق "أردوغان" تدريجيًا حقيقة أن دعمه الكامل للإخوان المسلمين المصريين وبُعدها عن القاهرة قد ألحق أضرارًا كبيرة بمصالح تركيا، وهذا هو السبب في أنه في العامين الماضيين، اقتربت أنقرة أكثر من مصر وفي الوقت نفسه حدت أنقرة إلى حد ما من مساحة أنشطة قنوات التواصل الاجتماعي وجماعات الإخوان المسلمين في الأراضي التركية. ومن الأمثلة الواضحة الأخرى على سلوك تركيا البراغماتي والمساومة في السياسة الخارجية تفاعلها مع الصين. وعلى الرغم من أن العديد من وسائل الإعلام التركية المحافظة والقومية قد شجعت حكومة "أردوغان" على دعم الأويغور بشكل لا لبس فيه في شينجيانغ بالصين، فقد ركز فريق وزارة التجارة التركية على الفوائد المتزايدة للتجارة مع الصين.
تدخل الرئيسين في المكان والزمان المناسبين يمنع الأزمات
وينطبق الوضع بالنسبة للملف الأفغاني أيضا، فعلى الرغم من أن انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة قد يخدم مصلحة روسيا للوهلة الأولى، إلا أن موسكو قلقة من سيطرة طالبان التي تصنفها كحركة إرهابية، على مقاليد الحكم بالبلاد، ما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في آسيا الوسطى، وهو الأمر الذي يوليه الكرملين أهمية كبرى. وفي الواقع، فإن عدم رضى شعوب بعض الجمهوريات مثل طاجيكستان وتركمانستان عن الأنظمة الحاكمة الحالية من العوامل التي تحضر الأرضية لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولذلك فإن المسؤولين الروس يسعون من جهة لتطوير علاقات التعاون العسكري مع جمهوريات آسيا الوسطى، ويشاركون مع تركيا مخاوفهم في المنطقة من جهة أخرى.
وكما يبدو، ففي الوقت الذي تتطور فيه العلاقات التركية الروسية في مجالات كثيرة ومرتبطان ببعضهما في مجالات مثل التجارة والطاقة والدفاع والسياحة، لكن من ناحية أخرى تتعارض مصالح تركيا مع روسيا إزاء التطورات في المنطقة. بالرغم من تقارب تركيا وروسيا، بسبب خلافاتهما مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتحركهما سوية في مناطق مثل الشرق الأوسط، والقوقاز، إلا أنه يصعّب حل بعض المشاكل بشكل نهائي كما هو الحال في الملف السوري لكن من أهم العوامل التي تدعو للتفاؤل حول مستقبل العلاقات التركية الروسية في المرحلة الجديدة، هو تدخل رئيسي البلدين بشكل فوري في الوقت الذي تتزايد فيه المشكلات بينهما. ويعتبر التدخل في المكان والزمان المناسبين، العامل الأكبر الذي ساهم في عدم دخول البلدين في مواجهة ساخنة، الأمر الذي يصفه خبراء روس بـ"المعجزة"، حيث أن التصريحات الإيجابية للرئيسين عقب اللقاء أمس يعد مؤشرا على استعداد الطرفين لحل جميع القضايا بواسطة الحوار، خاصة وأن السلام في المنطقة يعتمد بشكل كبير على هذين البلدين، ويصب في مصلحتهما.
نطاق واسع من التعاون مع روسيا
في السنوات القليلة الماضية، أقيمت علاقات استراتيجية بين تركيا وروسيا. وعلى الرغم من أن التركيز الأول للتعاون التركي الروسي كان سوريا، وكانت شراكة أستانا مع إيران أهم بُعد في التعاون مع روسيا، فقد ظهرت حوافز وامتيازات أخرى تدريجيًا، وأصبحت تركيا في العديد من المجالات عمليًا تابعة لروسيا. ومن خلال النأي بنفسها عن حلفائها القدامى والتقليديين (الولايات المتحدة)، عززت تركيا الشكوك بأن أنقرة تنفصل تدريجياً عن الغرب وتقترب من العالم الشرقي. ولا يمكن إنكار اعتماد تركيا على روسيا في مجالات الدفاع، والصواريخ، والطاقة النووية، والسياحة، والاقتصاد، فضلاً عن نقل الغاز والطاقة.
وسياسيًا وأمنيًا، إضافة إلى القضية السورية، عملت تركيا وروسيا أيضًا معًا في مناطق مثل ليبيا، وخلال التطورات الأخيرة في أفغانستان، كان هناك دائمًا اتصال مستمر بين الأجهزة الدبلوماسية التركية والروسية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن التعاون بين أنقرة وموسكو في التطورات في ناغورنو كاراباخ كان له أهمية كبيرة، ويمكن الآن أن نرى بوضوح أننا نشهد مجموعة أخرى من التعاون بين تركيا وروسيا في شرق البحر المتوسط. لذلك، ليس من المستبعد أنه في البحر الأسود وفي المعادلات السياسية والأمنية المتعلقة بهذه المنطقة الحساسة، ستبتعد تركيا تدريجياً عن أوكرانيا وتتخلى تدريجياً عن قضية جزيرة القرم من أجل الحفاظ على مصالحها وتعزيز العلاقات مع روسيا.
