الوقت- سبعٌ عجاف. ربّما تنتهي معها الحرب السورية، وربّما تطول أكثر، أو أقلّ. ما هو واضح اليوم وفقاً لمعطيات الميدان، أن زمن السنين قد ولّى، بدأ زمن الشهور.
هذه الخلاصة يمكن مشاهدتها اليوم على أكثر من صعيد عسكرياً كان الأمر أم سياسياً، بدءاً من المفاوضات في الآستانة، مروراً بانتكاسة تنظيم داعش الإرهابي في الموصل العراقية، وحالياً بوادر انتكاسته في الرقّة ودير الزور السوريتين.
وبين الواقع المزري، والمستقبل النيّر، كما أراه، تكشف المرحلة المقبلة عن واقع مختلف سياسياً، بعد فشل الأنظمة الغربية، والعديد من الأنظمة العربية، في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد.
لا بد لهذه الدول من الرضوخ لبقاء الرئيس الأسد حتّى انتهاء ولايته، بل التعامل معه، وربّما اللجوء إليه. قد يستهوي البعض هذا الكلام، وقد ينزعج منه آخرون، إلا أنه واقع لا مفرّ منه.
ما قبل الأزمة، ليس كواقعها، وليس كما بعدها، ولعل القارّة الأوروبية ستكون بحاجة إلى دمشق أكثر من أي وقت مضى، وحتّى أكثر من حاجة الأخيرة إليها. قد يستغرب البعض من هذا الكلام، إلا أنّه واقع لا يمكن التغافل أنه، لأسباب سنذكرها في ثنايا هذا الكلام.
هناك أسباب عدّة ستفسّر المهادنة، بل الحاجة الأوروبية إلى سوريا في مرحلة ما بعد الأزمة بصرف النظر عن النظام السياسي القائم في دمشق لناحيتي الشكل والمضمون. ومن أبرز هذه الأسباب ملف مكافحة الإرهاب, اللاجئين، إعادة الإعمار ومراكز الأبحاث.
مكافحة الإرهاب: يعدّ ملفّ الإرهاب أحد أبرز الهواجس الحالية في أوروبا، والعالم. وقد تسبّب القرب الجغرافي بين أوروبا وسوريا، تفصلهما تركيا، في عودة المئات من المقاتلين من وإلى سوريا، لتكون هذه الجماعات بمثابة قنابل موقوتة ينفّذون عمليات عنقودية تصعب مواجهتها في المدن الأوروبية. وهذا ما يفسّر الهلع الأوروبي من هجمات تتكرّر بين الحين والآخر، تارةً بشكل عمليات مسلّحة، وأخرى عمليات دهس. بالتأكيد، لن يتوقّف خطر هؤلاء عند نهاية الأزمة السورية، وبالتالي لا بدّ من التعاون الاستخباري بين دمشق وأغلب العواصم الأوروبية عبر عملية ما يسمّى بعصف المعلومات ومشاركتها لرصد أي تحرّك لهذه الجماعات. أي أنّ بنك المعلومات الموجود حالياً لدى دمشق سيكمل الآلاف من المعلومات الناقصة لدى أجهزة الاستخبارات الغربية، وفي حال أرادت هذه الأنظمة حماية أمنها واستقرارها لا بدّ لها من التعاون مع دمشق.
اللاجئين: يعد ملف اللاجئين الذين شكّلوا عبء سياسي واقتصادي على كاهل هذه الدول أحد أبرز الهواجس لدى الحكومات الغربية، وفي مقدّمتهم ألمانيا، لاسيّما في ظل فشل هذه الدول في تطويع جزء كبير منهم بما يتناسب مع الرؤية الغربية سواءً بسبب التقدّم في السن، أو أزمة اللغة وغيرها من الأمور الاجتماعية التي لنسا في وارد الإسهاب فيها. هناك خط عام في الإعلام الأوروبي حول إعادة هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم بعد انتهاء الحرب. ربّما يكون هذا الأمر إعلامي لا أكثر، وربّما واقعي ستنفّذه هذه الحكومات بعد انتهاء الأزمة. وفي كلا الحالتين يعدّ التعاون مع دمشق ضالّة هذه الدول.
ملف الإعمار: يعدّ ملف الإعمال في سوريا احد أبرز المشاريع الاقتصاديّة منذ مطلع القرن الحالي (الواحد والعشرين)، ولعل حصول أي تسوية سياسية لإعادة إعمار سوريا عبر المشاريع الأممية أو على نفقة دول إقليمية ودولية ستجعل من هذه المنطقة قبلة للشركات الأوروبية الطامحة لفرص كسب اقتصادي كبير. هناك تحرّك واضح من قبل شركات أوروبية، غير حكومية في الظاهر، داخل أروقة دمشق للحصول على ضمانات المناقصات التي تنتظرها هذه الشركات بفارغ الصبر. بل حتّى هناك العديد من الشركات الإقليمية التابعة لدول تقف ضدّ سوريا تسعى بصور مباشرة، أو غير مباشرة، لحصد مقعد أمامي لها في إعادة إعمار سوريا، ولكن لا بد أن تحظى الشركات التابعة للدول والجهات التي وقفت إلى جانب سوريا، أو تلك التي لم يثبت تورّطها بتدمير سوريا، بأولوية على كافّة الشركات التابعة لدول ساهمت في تدمير سوريا. هذا لا يعني أبداً إهمال شروط الكفاءة والعمل السليم في أي خطوة لهذه الأزمة.
مراكز الأبحاث: تُبنى سياسات الدول من قبل مراكز الأبحاث، أو خلايا التفكير كما يصطلحون عليها. وينشط هذا الحقل في مراحل ما بعد الحروب والأزمات، تماماً كما تنشط الصناعات العسكريّة إبان الحروب، ولعل المراجعة السريعة للواقعين العلمي والاجتماعي في مرحلة ما بعد الحربين العالميّة الأولى والثانيّة يفضي إلى نتيجة واضحة في هذا الصدد. لا يمكن لهذه المراكز إجراء أبحاثها، السياسيّة، الاجتماعية، النفسية والإنسانيةّ، في أكبر أزمات الشرق الأوسطية منذ عقود دون التنسيق مع الجانب السوري، الأمر الذي سيغني هذه الأبحاث من جوانب عدّة.
يبدو جليّاً أن منطق دمشق في مرحلة ما بعد الأزمة هو منطق القوّة وليس الضعف كما أراد كثيرين. هذه النتائج لم تكن لتحصل لولا الانتصارات الميدانية التي حقّقها الجيش السوري الذي صمد طيلة أعوام الأزمة. هذا الجيش لم يكن ليصمد لولا الزخم الشعبي الذي يعدّ خزّان هذه الجيش. بالطبع، دون إغفال دور حلفاء سوريا سياسيّاً عسكرياً واقتصاديّاً.